q
فالثقافة هي بمثابة الشجرة ذات الكينونة الحية المبدعة، التي لا تتوقف عن إنتاج الثمار لصاحبها، ويصل التفاعل ذروته، حينما تكون الثقافة هي المجتمع، والمجتمع هو الثقافة. فالثقافة تفتح آفاق مصالحة المجتمع مع نفسه، ومع عصره، مما يؤسس أسباب التطور المدني في المجتمع باعتبار أن التطور المادي والمدني...

هل يكفي أن تكون الثقافة السائدة خلاقة ومبدعة، وذات فعالية وتأثير دينامي، حتى يتحول المجتمع الذي تعيش فيه هذه الثقافة، إلى مجتمع خلاق ومبدع.

أم أننا إزاء مسألة تاريخية عميقة ومتشابكة، ومتداخلة العناصر والعوامل، وتحتاج إلى توفر مجموعة من الشروط، التي تنتمي إلى الفضاء التاريخي والحضاري؟.

وكما يبدو من تاريخ الجماعات البشرية، أن فاعليتها وديناميتها ليست مرهونة بوجود ثقافة مبدعة بين ظهرانيها. وإنما لابد من إسناد عنصر الثقافة، بعوامل أخرى اجتماعية ـ تاريخية حتى تفعل هذه الثقافة فعلها في المجتمع.

ويمكن تكثيف هذه العوامل الاجتماعية ـ التاريخية بمقولة التفاعل والتعاون بين الثقافة بعناصرها المتعددة ومتطلباتها الذاتية، وبين المجتمع وحاجاته الموضوعية.

إذ أن تفاعل المجتمع مع الثقافة والمثقفين، هو الذي يخلق أنماطاً متميزة من الوعي والسلوك ومنظومات قيم وقواعد اجتماعية وعقلية، ترفع بالمجتمع والوطن ككيان قدماً نحو ولوج آفاق البناء والتطور.

ولا نقصد بالتفاعل هنا بين الثقافة والمجتمع، المتابعة المستمرة للمناشط الثقافية التي تجري في داخل المجتمع، وإنما نقصد بالتفاعل وجود حالة مماثلة وانسجام تام بين تطلعات الثقافة وحركة المجتمع، بحيث ان تكون الحركة الاجتماعية في تطلعاتها المختلفة تصب في قناة تطوير الثقافة والمجتمع، بما يؤهل الأخير أن يكون مجتمعاً حضارياً وتاريخياً.

وحينما تتحول الثقافة إلى نسق ثقافي ـ اجتماعي، يمارس دوره، ويبلور مقاصد الناس حينذاك نستطيع القول إن عوامل التفاعل بين الثقافة والمجتمع، قد توفرت وتحققت على المستوى العلمي.

وحين تحدد الثقافة، كما يقول المفكر العربي (برهان غليون)، لدى هذه الجماعة أسلوب استخدامها لإمكاناتها البشرية والمادية، ونوعية استهلاكها لبيئتها، ويكون نجاح الثقافة وتطورها بقدر فاعليتها في تحقيق الاستخدام الأمثل لإمكاناتها (الجماعة) وبهذا لا تكون الثقافة مجرد النتاج الفكري أو النظري، الذي يقوم به المثقف أو ينتجه على شكل مقالات ودراسات وكتابات، بل هي كائن حي وسيرورة تاريخية واجتماعية.

فالثقافة هي بمثابة الشجرة ذات الكينونة الحية المبدعة، التي لا تتوقف عن إنتاج الثمار لصاحبها، ويصل التفاعل ذروته، حينما تكون الثقافة هي المجتمع، والمجتمع هو الثقافة.

فالثقافة تفتح آفاق مصالحة المجتمع مع نفسه، ومع عصره، مما يؤسس أسباب التطور المدني في المجتمع باعتبار أن التطور المادي والمدني، هو في حقيقته نتاج المنظومة العقدية والثقافية والتاريخية لأي مجتمع.

فالمجتمع الذي يبني ويوجه في حقول السياسة والاجتماع والاقتصاد ضد منظومته العقدية وذاته الحضارية، لن يجني من هذا التوجه إلاّ المزيد من التأخر وبعثرة الطاقات والجهود، بينما المجتمع الذي يتصالح مع ذاته ويتناغم في حركته وأعماله مع منظومته العقدية، يبدأ يشق طريق التقدم، ويمتشق جواد التطور والبناء المتواصل.

ولذلك فإن انتشار الثقافة لا يتحقق خارج إطار الزمان والمكان، ولا بمعزل عن أبناء المجتمع، وإنما لابد من وجود حالة مثاقفة ومفاعلة، حتى تؤتي الثقافة ثمارها على الصعيد العام.

وحينما يبدأ الكيان الاجتماعي، بالتخلي عن ثقافته الذاتية، وهي المعادل الموضوعي لهويته وحضارته، حينذاك يتحول المجتمع إلى ورقة في مهب الريح، والركض واللهاث وراء كل موضة، واعتبارها هي أساس الحل، ووسيلة المدنية والتحضر.

لهذا فإن الحفاظ على الثقافة برموزها ومفاهيمها الكلية وآفاقها العملية مسألة ضرورية لموازنة الأمور، والاستفادة من الخبرات التاريخية، وتنقية الوافد الجديد من شوائبه وإدماجه مع العناصر الذاتية للثقافة.

ويكفي أن نراقب الدول والشعوب التي أضعفت منابع ثقافتها الذاتية، وعطلت إمكاناتها على أساس إعطاء فرص التحديث دورها في نمو المجتمع وتحضره، علينا أن ننظر ونرى أن هذه العملية لم تنتج إلاّ المزيد من تجفيف إمكانات الذات، وسبل المقاومة المتوفرة فيها تجاه الوافد السيء. ولهذا نرى أن مهمة المثقف تجاه مجتمعه ومحيطه، تتجسد في ضرورة أن يقوم المثقف بواجباته والتزاماته المعرفية والاجتماعية، وتنسيق جهود ونشاطات بقية الفئات والشرائح الاجتماعية، بحيث تصب جميعها في دائرة تطوير البناء الحضاري للمجتمع.

ويشير إلى هذه المسألة الفيلسوف (ليبنتز 1646ـ 1716م) ويشبهها بمجموعة موسيقية فيقول: إننا لو فرقنا بين عازفي السيمفونية، بحيث وضعنا كلاً منهم في غرفة وحده، ومعه النوتة التي يعزف على منهاجها، فالضارب على البيانو في غرفة والعازف على الكمان في غرفة وهكذا، لتكونت من عزفهم السيمفونية كاملة، ولكن ضعهم معاً ولكل منهم نوتة تختلف عما عند زميله، فلن يصدر منهم إلاّ الخليط والفوضى، وليست مهمة المايسترو إلاّ في التوقيت.

فالمثقف مطلوب منه اليوم أن يجسّر الفجوة والهوة التي تفصله عن مجتمعه، حتى يتسنى له بعد ذلك القيام بدوره المعرفي تجاه مجتمعه ومحيطه. وحتى يتمكن المثقف من أداء دوره تجاه مجتمعه، من الضروري أن يحمل المثقف رسالة اجتماعية يبشر بها، ويسعى نحو تعميمها في الوسط الاجتماعي.

وهكذا من الأهمية أن يتفاعل المثقف مع مجتمعه، لأن التفاعل هو الذي يؤسس العوامل الكفيلة بتوليد المعارف والثقافات التي ترفع من شأن المجتمع، وتفتح له الآفاق وتبلورها.

وإنه كلما توفرت حقائق الثقافة والمعرفة على مستوى الشارع، كان هذا عاملاً أساسياً في تطوير المجتمع ورقيه الحضاري.

وإن التفاعل بين المثقف والمجتمع، يبدأ بتفاعل الشعور بين أبناء المجتمع والمثقف، ومن ثم يبدأ الجميع بترجمة هذا الشعور ضمن أطر وأوعية متعددة، تؤدي إلى المزيد من التلاحم القلبي والشعوري والعملي بين المثقف والمجتمع.

وجماع القول: إن حقائق العصر تؤكد أن تفاعل المثقف والمجتمع، لا يتم بين عشية وضحاها، وإنما هو يبنى بناء، ويبدأ من الدوائر الصغيرة في المجتمع وصولاً إلى الدوائر الكبيرة.

لأن الثقافة كائن حي، يتطور باستمرار، ويتكيف بشكل إيجابي مع التطورات والمتغيرات الجديدة.

وإن ثقافة لا تتواصل مع نبضات واقعها، وتستجيب إلى متطلبات الراهن، وتتناغم وحقائق التاريخ والكون، فإن مآلها الانزواء والتخلف عن ركب الإنسان والعصر.

وفي مناخات التواصل مع العصر، تبلور الثقافة أجوبتها ومواقفها وآمالها ومطامحها الحضارية.

ويتعين علينا جميعاً، دخول طور جديد من الفهم والعمل، يسمح لنا من مواقعنا الوطنية المتعددة تجميع الطاقات وبلورة الاتجاهات وتوظيف الإمكانات في أوعية وأطر استراتيجية محددة بأفق الأهداف والغايات العليا، ومضبوطة، الوسائل والأساليب، حتى تحول دون فتح معارك جزئية، تلهيهم عن تطلعاتهم الكبرى وتجسيدهم لآمال الأمة في الانعتاق وبناء الذات الحضارية.

وإن الانخراط بالثقافة الوطنية في هموم العصر وتطلعاته، يتطلب تجاوز الحالة العاطفية المجردة، والعناية الفائقة بالممارسات الإيجابية البناءة، التي تسعى جاهدة إلى إشعال الشموع بدل لعن الظلام والإضافة والإسهام النوعي، بدل الانشغال في القيل والقال واستحضار قيم الثقافة الوطنية الكبرى، بدل الانزواء في كهف الماضي وصومعة المتصوفين والمترهبنين.

والإنسان المسلم في صدر الإسلام، لم يرجئ عملاً أو يتوانى عن تأدية واجبه ووظيفته التاريخية والحضارية، وإنما قام بخلق فرادته الذاتية بشهوده الحضاري.

اضف تعليق