أعادت عملية طوفان الأقصى زخم القضية الفلسطينية في الأجندة الإقليمية، وأنهت احلام تل أبيب في قرب إعلان الموت الإكلينيكي للقضية الفلسطينية. نتيجة فيضان الأقصى، فرضت معطيات جديدة جعلت من القضية الفلسطينية موضوعا رقم 1 مهم. لا يمكن تجاهله في حسابات المشاريع الإقليمية المرتبطة بالاتجاهات الجيوسياسية الجديدة في العالم المتغير...
حركة حماس هي إحدى القوتين السياسيتين الرئيسيتين في الأراضي الفلسطينية. والأخرى هي حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح"، وهي منظمة علمانية، تبنت الكفاح المسلح على غرار الحركات اليسارية الأخرى. في عام 1974، اعترفت القمة العربية بحركة فتح باعتبارها "الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني". خلال هذه الفترة، كانت جماعة الإخوان المسلمين تنشط في الأراضي المحتلة وتجنبت الصراع المسلح وكرست نشاطها للعمل من أجل مجتمع أكثر تدينًا (إسلاميًا).
اعترفت إسرائيل بالجماعة الإسلامية كمنظمة خيرية وسمحت لها بالعمل بحرية. واعتبرت إسرائيل الجماعات الإسلامية وسيلة لإضعاف نفوذ منظمة التحرير الفلسطينية (العلمانية). كما اعتبرت السكان الفلسطينيين الخاضعين لسيطرتها مسالمين إلى حد كبير ومصدرًا رخيصًا للعمل اليدوي داخل إسرائيل. وهكذا واصلت إسرائيل توسيع المستوطنات اليهودية في غزة والضفة الغربية ومصادرة الأراضي العربية. ولم تكن في حسابات إسرائيل أن الجماعات الإسلامية لديها حسابات أخرى، تشكيل وبناء بيئتها الخاصة. بعد ذلك أسسوا الجامعة الإسلامية في غزة، التي أصبحت أرضاً خصبة لتوسيع حاضنتهم الاجتماعية.
واخيراً أدركت إسرائيل هذا الخطأ مع انتفاضة الشباب الفلسطيني (الانتفاضة الأولى عام 1987) والتي تكللت بالنجاح، وكان من نتائجها:
أولاً، ساعدت الفلسطينيين على تأسيس هويتهم بشكل مستقل عن الدول العربية المجاورة وأجبرت إسرائيل على الدخول في مفاوضات معهم.
ثانياً، عزز دور عرفات في التوصل إلى اتفاقيات مع إسرائيل. بداية من عملية أوسلو للسلام عام 1993، التي كان هدفها تحقيق "حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير". رغم أن إسحق رابين، رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، لم يقبل مبدأ الدولة الفلسطينية. أنشأت اتفاقيات أوسلو السلطة الوطنية الفلسطينية وضمنت حكمًا ذاتيًا محدودًا على أجزاء من الضفة الغربية وقطاع غزة. شريطة أن تؤدي المفاوضات اللاحقة إلى حل القضايا الأخرى، مثل وضع القدس ومستقبل المستوطنات الإسرائيلية وحق العودة لملايين الفلسطينيين.
ووفقا لاتفاقيات أوسلو في يوليو 1994، عاد رئيس منظمة التحرير الفلسطينية آنذاك، ياسر عرفات، إلى غزة. ومن مخيم-جباليا قال: "دعونا نتحدث بصراحة. هذا الاتفاق قد لا يلبي تطلعات البعض منكم، لكنه كان الحل الأفضل الذي يمكن أن نحصل عليه في ظل الظروف الدولية والعربية الحالية". صحيح أن الموقف التفاوضي لمنظمة التحرير الفلسطينية مع تل أبيب كان في ذلك الوقت ضعيفاً.
ثالثا، بعد الانتفاضة مباشرة، استغل الشيخ أحمد ياسين (شخصية كاريزمية عاش في غزة) حيوية الجماعة الإسلامية خلال الانتفاضة وأسس حركة حماس.
ساهم تعثر مفاوضات السلام عام 2000 في اندلاع الانتفاضة الثانية (28 سبتمبر 2000 وتوقفت فعلياً في 8 فبراير 2005). هي تختلف عن الانتفاضة الأولى حيث شاركت فيها حماس وفصائل أخرى. ولذلك، كانت التداعيات السياسية للانتفاضة الثانية كبيرة، منها تصلب المواقف الإسرائيلية وبناء الحواجز في الضفة الغربية. وأخيراً اضطر رئيس الوزراء أرييل شارون إلى التصريح علناً بأن إسرائيل لا تستطيع الاستمرار في احتلال الأراضي الفلسطينية، ولكنه لم يقل إن البديل هو إقامة دولة فلسطينية مستقلة. ثم اتخذ شارون قرار "فك الارتباط" مع الفلسطينيين في صيف عام 2005 مع إغلاق المستوطنات الإسرائيلية في غزة وأجزاء من شمال الضفة الغربية.
كان الوضع في غزة منذ فك الارتباط مثيراً للجدل، حيث تدعي إسرائيل أنها لم تعد محتلة للقطاع، بينما تدعي الأمم المتحدة عكس ذلك بسبب استمرار سيطرة إسرائيل على المجال الجوي لغزة والمياه الإقليمية، فضلاً عن الوصول إلى القطاع.
وفي عام 2006، أصبح من الصعب تبرير أو إخفاء الفساد والركود السياسي الذي كانت تعاني منه حركة فتح الحاكمة في ذلك الوقت. وأجريت الانتخابات التشريعية الفلسطينية في ذلك العام وفازت حماس. وتم تعيين زعيم حماس إسماعيل هنية رئيسا للوزراء.
أدت نتائج الانتخابات إلى تدهور العلاقات بين حماس وفتح وفشل الاتفاق على تشكيل حكومة وحدة وطنية. بعدها قادت حماس حركة مسلحة للإستيلاء على غزة. بينما حافظت حركة فتح على سيطرتها على السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، ولم تُعقد أي انتخابات منذ ذلك الحين. وفي ظل الخلافات الفلسطينية الداخلية، بدأت إسرائيل اعتقال أعضاء من حركة حماس وفرضت عقوبات على غزة. واصلت حماس مهاجمة إسرائيل من غزة، في المقابل فرضت إسرائيل حصارا مشددا على غزة مما ساهم في تدهور الأوضاع المعيشية وتفاقم الفقر.
موقف المجتمع الدولي كان ولا يزال سلبيا، فقد دعم رسميا حل الدولتين، لكنه لم يقدم شيئا ملموسا، وعلاوة على ذلك صرح بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء إسرائيل الأطول خدمة، مرارا وتكرارا أنه لن يقبل أبدا بحل الدولتين. وواصلت الحكومة الإسرائيلية تجاهل حقوق الشعب الفلسطيني وتكريس كافة أشكال الفصل العنصري في الأراضي المحتلة حتى طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023.
لقد كشف طوفان الأقصى عن هشاشة وضعف الكيان الإسرائيلي، وقدم القضية الفلسطينية بشكل مختلف عما كانت عليه عام 1993 خلال مفاوضات أوسلو للسلام. حينها كان الموقف التفاوضي لمنظمة التحرير الفلسطينية مع تل أبيب ضعيفا وانتهت المفاوضات باتفاقيات أوسلو الضعيفة. وهو ما اعتبره بعض الفلسطينيين البارزين شكلاً من أشكال الاستسلام. والآن طوفان الأقصى سوف يخلق موقف تفاوضي مستقبلي قوي وسيجعل تل أبيب في موقف أضعف هذه المرة.
كما أعادت عملية "طوفان الأقصى" زخم القضية الفلسطينية في الأجندة الإقليمية، وأنهت احلام تل أبيب في قرب إعلان "الموت الإكلينيكي" للقضية الفلسطينية. نتيجة فيضان الأقصى، فرضت معطيات جديدة جعلت من القضية الفلسطينية موضوعا [رقم 1 مهم]. لا يمكن تجاهله في حسابات المشاريع الإقليمية المرتبطة بالاتجاهات الجيوسياسية الجديدة في العالم المتغير. إن المرارة والكراهية، وكذلك اليأس الفلسطيني من استخفاف الدول العربية بالقضية الفلسطينية، فرض على كل محور مقاومة "قطاع غزة" البدء بعملية "طوفان الأقصى"، وهي تدرك جيداً أن رد إسرائيل وحلفائها سيكون كارثياً على قطاع غزة.
طوفان الأقصى في عالم متغير
في يونيو 2023، استضاف الرئيس الصيني شي جين بينغ الرئيس الفلسطيني في بكين ودعا رئيس الوزراء الإسرائيلي لزيارة دولة رسمية. وافق بنيامين نتنياهو، وكانت الصين تتجه نحو دور أكبر في المنطقة. لكن عملية "طوفان الأقصى" قلبت طموحات الصين في الشرق الأوسط. وأثار إعلان الصين الحياد تجاه "طوفان الأقصى" مخاوف في إسرائيل. واتصل وزير الخارجية أنتوني بلينكن، أثناء سفره في الشرق الأوسط، بوزير الخارجية الصيني وانغ يي، ليطلب من الصين استخدام كل نفوذها في المنطقة لمنع دول ومجموعات أخرى من الدخول وتوسيع الصراع. ومن المعروف أن لها علاقات تجارية وسياسية وثيقة مع إيران التي تدعم بدورها حماس وحزب الله اللبناني. وكان هذا أول اتصال رفيع المستوى بين الولايات المتحدة والصين بشأن الوضع في الشرق الأوسط منذ "طوفان الأقصى".
تريد بكين الحفاظ على توازن دقيق في سياساتها، ووضع نفسها كوسيط وممارسة نفوذها في المنطقة. لكن توفيا جيرينج، الباحثة في مركز السياسة الإسرائيلية الصينية في معهد دراسات الأمن القومي في تل أبيب، وصفت موقف بكين بأنه "حياد مؤيد للفلسطينيين"، وهو يشبه إلى حد كبير موقفها من غزو الاتحاد الروسي لأوكرانيا دعماً للكرملين.
تعتقد إسرائيل أن الصين تحاول الحصول على مزايا جيوسياسية وأن هذا النهج الصيني يخاطر بتنفير إسرائيل. لكن قد يكون ذلك مفيدًا في نهاية المطاف لبكين.
وبالفعل، إذا نظرنا إلى القضية في ضوء ما نتج عن الحرب في أوكرانيا وطوفان الأقصى"، فيبدو أن الزعيمين الروسي والصيني يقتربان من بعضهما البعض، وينعكس ذلك في شكل المنافسة الإقليمية والدولية مع الولايات المتحدة وحلفائها. الآن نرى وصول بوتين إلى بكين في أول رحلة خارجية له منذ إعلانه مطلوبا من قبل المحكمة الجنائية الدولية بسبب الحرب في أوكرانيا، وهو مؤشر قوي على هذا التقارب والثقة، وانتقادهم لتصرفات إسرائيل ردا على عملية الطوفان الأقصى ودعوتهم لوقف إطلاق النار هي شكل آخر من أشكال التقارب، يهدف إلى خلق موقف يوضح قيادتهما العالمية كبديل للهيمنة الأمريكية المنحازة لإسرائيل، ويأخذ في الاعتبار التوازن والمصالح في التعامل مع الأزمات الدولية، وخاصة في منطقة الشرق الأوسط، وبالذات في القضية الفلسطينية.
علاوة على ذلك، فإن الدعم الأميركي لإسرائيل سيعطي الصين الفرصة لتوسيع مبيعات الأسلحة الصينية إلى الدول العربية غير الراضية عن السياسة الأميركية، لكن الصين تريد أيضاً حل الأزمة لحماية مصالحها الاقتصادية في المنطقة. وبمرور الوقت يزداد إنغماس الصين في الشرق الأوسط بسبب هذا الصراع. وستلعب بكين دوراً أكبر في الجهود المبذولة لإنهاء الحرب وتأمين مصالحها الاقتصادية، فضلاً عن رغبتها في الاستفادة من إحباط الدول العربية من الولايات المتحدة لترسيخ نفسها كقوة عظمى في المنطقة.
اضف تعليق