يحاول بعض الاستراتيجيين إجبار الأميركيين على البقاء لمنع إيران من أن تصبح قوة إقليمية مهيمنة. إيران بعيدة كل البعد عن الهيمنة العسكرية بسبب قربها من روسيا والصين. بالإضافة إلى ذلك، قد تنشأ مجموعة أخرى في المنطقة وتصبح قوة قادرة على مواجهة وزن طهران. كما أن فكرة خروج أميركا...

ان الإمبريالية الأمريكية جاءت متأخرة إلى الشرق الأوسط، بعد بريطانيا وفرنسا. لم تكن الولايات المتحدة مثل القوى الاستعمارية الأوروبية التي سبقتها. لقد رأت نفسها كأمة استثنائية، تشبه إسرائيل، التي فضلها الله في العالم. تتمتع هذه النظرة بدعم من الحزبين وهي نظرة متجذرة بعمق في تاريخ البلاد وثقافتها وتقاليدها الدينية. 

ترتبط السياسة الأمريكية الحالية بالاستثنائية الأمريكية. التي أطلق عليها ريغان اسم الدين المدني للأمة. بالاضافة وصف رونالد ريغان امريكا بأنها "المدينة المضيئة على تلة". واستعار هذا الوصف من إنجيل متى 5: 14 "أَنْتُمْ نُورُ الْعَالَمِ. لاَ يُمْكِنُ أَنْ تُخْفَى مَدِينَةٌ مَوْضُوعَةٌ عَلَى جَبَل". ومن خلال هذه الاستثنائية، ترسخت فكرة "المصير الواضح" بين الأميركيين خلال القرن التاسع عشر. 

وقبل أن تأتي أميركا إلى الشرق، كانت منخرطة في حروب إبادة جماعية ضد شعوب أميركا الأصلية ولم تبدأ في بناء إمبراطوريتها في الخارج حتى تسعينيات القرن التاسع عشر، وعادة ما كانت العباءة الإمبراطورية للولايات المتحدة مستمدة من قوة إمبريالية أوروبية سبقتها، على سبيل المثال، في 11 أبريل 1898، أعلن الرئيس ويليام ماكينلي الحرب على إسبانيا في بورتوريكو وكوبا والفلبين باسم دعم مقاتلي الحرية المحليين ضد الإمبراطورية الإسبانية، لكن الهدف الحقيقي كان إقامة أنظمة موالية للولايات المتحدة. وفي العام نفسه، ضم ماكينلي هاواي إلى الولايات المتحدة، وذلك ضد رغبات معظم سكان هاواي الأصليين.

منذ عام 1898 وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية لم يكن لدى أميركا أي أمل في توسيع إمبراطوريتها، حيث كانت الإمبراطوريتان البريطانية والفرنسية لا تزالان تتوسعان في الشرق الأوسط. ولكن الحرب العالمية الثانية أنهكت الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية ولم تتمكنا من الحفاظ على إمبراطوريتيهما في الخارج. وهذا فتح الطريق أمام أميركا لفرض زعامتها العالمية، من خلال الحكم غير المباشر. والأمر المهم هو أن تظل هذه البلدان تحت سيطرتها. 

وبما أن الولايات المتحدة أصبحت الوريثة للإمبريالية البريطانية في المنطقة، فقد أصبحت موضع شك. لأن الغرب تراجع عن وعوده باستقلال الدول العربية، فلا ينبغي أن نستغرب أن ينظرون العرب إلى الغرب وأميركا بريبة وعداء. علاوة على ذلك، لم تكن الولايات المتحدة مثل القوى الاستعمارية الأوروبية السابقة، التي لم تتدخل في الصراعات السياسية الداخلية للمنطقة. وعلى النقيض من ذلك، تدخلت الولايات المتحدة في شؤون المنطقة بهدف ضمان وصولها إلى النفط والاحتفاظ به لنفسها أو في أيدٍ صديقة. من خلال هذه السيطرة، بنت واشنطن مطالباتها بالزعامة العالمية. أميركا تسمي هذه السيطرة بــ "الاستقرار الإقليمي". تركز التدخل الأميركي في اتجاهين: الاتجاه الأول هو انخراط السياسة الأميركية في الشؤون الإيرانية. والاتجاه الثاني هو الانخراط في الصراع العربي الإسرائيلي المعقد.

ففي عهد الرئيس رونالد ريغان ـ أبرز زعماء المحافظين الجدد ـ ترسخت المقاربة العدوانية للإمبريالية الأميركية وتحولت إلى مقاربة أيديولوجية في العلاقات الدولية المعاصرة. يميل المحافظون الجدد إلى أقصى اليمين المسيحي ويؤمنون بقوة أميركا وسيطرتها على العالم. كما يرون أنفسهم مجموعة ذات ميول صهيونية ومعادية للعرب والمسلمين ويصفون أنفسهم بأنهم حلفاء استراتيجيون لإسرائيل. 

وقد ازدادت هيمنة المحافظين الجدد على السياسة الخارجية الأميركية في عهد الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش الذي ورط الأميركيين بعد الحرب العراقية الكويتية في مسألة "النظام العالمي الجديد" الذي لم يأت بأي جديد تقريباً. هذا النظام أكثر خطورة من النظام القديم، لأنه يتميز بسياسة خارجية أميركية نشطة خالية من القيود التي فرضتها القوى العظمى المتنافسة في السابق. وهو نظام ينذر بالسوء لشعوب الشرق الأوسط، وكذلك للمواطنين الأميركيين ــ وكل ذلك باسم الزعامة الأميركية.

المشروع الأميركي وتطهير الشرق الأوسط

بعد مرور عقد على الربيع العربي، لا تزال السياسة في الشرق الأوسط مثيرة للجدل، سواء داخل الدول أو بين الدول. وهذا ما أكده وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، الذي قال إن الشرق الأوسط يمر بوضع مضطرب، هو الأكثر اضطراباً منذ عام 1973. من ناحية أخرى، قدم محور المقاومة برنامج عمل لمعالجة مشاكل النظام الإقليمي في الشرق الأوسط، استناداً إلى خبرته الطويلة في محاربة الهيمنة الأميركية وحلفائها الإقليميين.

إن نجاح محور المقاومة، إلى جانب الوضع البائس للولايات المتحدة وإسرائيل، أجبر كل الأطراف المشاركة في اللعبة السياسية الدولية على إعادة النظر في علاقاتها بالولايات المتحدة وإسرائيل. وإعادة تقييم العلاقة مع الولايات المتحدة كقوة عظمى، ونرى ذلك من خلال مواقف هذه الدول من سياسات واشنطن، وخاصة إيران وفنزويلا وجنوب أفريقيا. كما تمكنت حركة المقاومة الإسلامية من تنظيم أعضائها واستغلال الظروف الإقليمية والدولية لقلب الطاولة على الولايات المتحدة والكيان الصهيوني.

أكد وزير الدفاع الأميركي الأسبق روبرت جيتس أن منطقة الشرق الأوسط لا تزال ذات أهمية استراتيجية، فهي مهمة ليس فقط للنفط والغاز، بل أيضاً لموقعها وجغرافيتها وطرق الشحن. إذ تمر عبر البحر الأحمر 12% من التجارة العالمية و30% من حركة الحاويات العالمية. بالإضافة إلى ذلك، يعد مضيق هرمز نقطة عبور لـ 20% من نفط العالم و20% من الغاز الطبيعي المسال في العالم. وفقدانهما يعني إضعاف الاقتصاد العالمي. لذلك فإن الوجود الأميركي في الشرق الأوسط ضروري لضمان التجارة الدولية والأمن وحرية الملاحة البحرية (الهيمنة العالمية) وفي حال انسحاب الولايات المتحدة من المنطقة دون استراتيجية متماسكة تضمن بناء بيئة أكثر استقراراً، سيتوسع محور المقاومة ويزعزع استقرار المحور الأميركي الموجود بالفعل في المنطقة.

الولايات المتحدة يجب أن تغادر الشرق الأوسط

الولايات المتحدة لديها 46 ألف جندي مجهز بالكامل متمركزين في 11 دولة في الشرق الأوسط. وهي غير متوفرة في أوروبا أو شرق آسيا. ومن بين الأسئلة الاستراتيجية أمام الرئيس الأميركي دونالد ترمب ما إذا كان ينبغي الحفاظ على هذا الوجود الأميركي الضخم أو سحبه ؟ تقع هذه القوات في مرمى محور المقاومة من اليمن إلى بلاد الشام. والمهم الآن كيف ستنسحب القوات الأميركية من الشرق الأوسط إذا قرر سحبها. ليس على نحو مماثل لانسحاب بايدن من أفغانستان، والذي من شأنه أن يعرض مصادر الطاقة للخطر ويلقي بالمنطقة في حالة من الفوضى. 

يحاول بعض الاستراتيجيين إجبار الأميركيين على البقاء لمنع إيران من أن تصبح قوة إقليمية مهيمنة. إيران بعيدة كل البعد عن الهيمنة العسكرية بسبب قربها من روسيا والصين. بالإضافة إلى ذلك، قد تنشأ مجموعة أخرى في المنطقة وتصبح قوة قادرة على مواجهة وزن طهران. كما أن فكرة خروج أميركا من شأنه أن يخلق فراغا يمكن لموسكو أو بكين أن تتدخل لملئه مبالغ فيها أيضا. إن روسيا منخرطة في سوريا وأفريقيا، وتستعرض قوتها في أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى، فضلاً عن القطب الشمالي. وتراقب الصين مضيق تايوان وبحر الصين الشرقي وبحر الصين الجنوبي. ولن يؤدي انسحاب الولايات المتحدة إلى تسليم الشرق الأوسط إلى روسيا أو الصين.

وأخيرا، لا ينبغي لنا أن نربط الصراع المأساوي الذي دام 75 عاما بين الإسرائيليين والفلسطينيين بالمساحة التي تتنفسها القوى العظمى أو بسعي إيران إلى الهيمنة الإقليمية. أو أن نربط بين وجود أميركا للدفاع عن إسرائيل لعدم منطقيته. فإسرائيل قادرة على الدفاع عن نفسها لأنها تمتلك أقوى جيش في المنطقة ولأن ترسانتها النووية هي الوحيدة في المنطقة. وفي هذه الحالة، فإن الأمر متروك لشعوب الشرق الأوسط لإحلال السلام، ولا يمكن لأي قوة خارجية، لا أميركا ولا أوروبا ولا أي طرف آخر، أن تجبرهم على القيام بذلك. ولحماية مصالحها في أوروبا وشرق آسيا، يتعين على أميركا أن تسحب قواتها من الشرق الأوسط.

* كاتب ومحلل سياسي يمني

اضف تعليق