مما لاشك فيه ان الدول الكبرى تتحرك وفق مصالحها الاستراتيجية، وهي تتوزع بين مصالح حيوية وأخرى مهمة، وكل مصلحة تصاغ لها استراتيجيات وسياسات خاصة تعمل على إنجازها بأقل التكاليف وبأعلى مردود ممكن، ويختلف فاعلية كل وسيلة عن الأخرى، كما ان توظيف أي وسيلة يكون وفق قواعد تمليها نوع وحجم المصلحة.
اولاَ: المصالح الروسية في سوريا
روسيا تعد من الدول الكبرى الفاعلة في السياسة الدولية وهذه الفاعلية لم تأتي من فراغ، فهي تمتلك سابع اقتصاد في العالم وبدخل قومي وفقاً لعام 2014 يقدر بــ 3.565 ترليون دولار والانفاق وفقا لنفس العام قدر بـــــ 3.49% من الناتج المحلي وتمتلك قطعات عسكرية تقدر ب771.000الف دبابة و1.337 طائرة مقاتلة، فضلا عن الأسلحة الاستراتيجية فهي تمتلك اكثر من 7000 رأس نووي، ولديها انتشار عسكري واسع في دول اسيا الوسطى وفي دول القوقاز وبعض القواعد في دول أوروبا الشرقي.
وبطبيعة الحال ان مصالح روسيا تزداد مع زيادة قدراتها المادية وانتشارها العسكري، لذا فان لروسيا مصالح استراتيجية في مناطق عديدة من مناطق ودول العالم ومن هذه المناطق هي منطقة الشرق الأوسط. ولأن روسيا تطمح الى استعادة دورها الفاعل في الساحة الدولية، الا ان هذا يعني مزاحمة القوة المهيمنة لإيجاد دور يتيح لها ممارسة الفعل الهادف والمؤثر، وهذا الامر بحد ذاته ترفضه الولايات المتحدة الامريكية التي تسيطر وتوجه اغلب التفاعلات على الساحة الدولية، اذ تعمل الأخيرة على منع عودة روسيا ومنع استمرار الصعود الصيني للمحافظة على مكانتها في النظام السياسي الدولي، فالولايات المتحدة تعمل على الدوام للحد من مصالح الاطراف الدولية الفاعلة لعرقلة صعودها لتمنع دوران عجلة التغيير او دورة التاريخ كما يشير ارنولد توينبي.
ان استراتيجيات روسيا الاتحادية الجديدة صيغت وفق عقيدة استراتيجية جديدة فالرئيس السابق ديمتري مدفيدف اعتبر في الاستراتيجية التي صادق عليها في عام 2010 بان حلف شمال الأطلسي يمثل التهديد المباشر لروسيا فتوسيع هذا الحلف وانتشار الدرع الصاروخي الأمريكي يمثل قلق للأمن الروسي، اما العقيدة العسكرية الجديدة التي صادق عليها الرئيس الروسي فلاديمير بوتن مؤخراً، فانها تحولت من المبدأ الدفاعي الى الهجومي، معتبرة ان مصالح روسيا في خطر وان مسألة مواجهة التحديات يتطلب تعديلا في العقائد الاستراتيجية، لاسيما مع اشتداد مظاهر عدم الاستقرار في اغلب مناطق النفوذ الروسي بدءاً بدول اروبا الشرقية وانتهاء بسوريا.
المصالح الروسية في سوريا تقترن بالبعد الجيوستراتيجي، فالمكانة الروسية ومحاولة روسيا تحقيق دور فاعل في التفاعلات الدولية يتطلب الدفاع عن مناطق نفوذها التقليدية، فبالإضافة الى البعد الجيوستراتيجي فان لروسيا مصالح عسكرية في روسيا تتمثل بالقاعدة العسكرية في طرطوس، فضلا عن ان روسيا تمثل مستوردا مهما للسلاح الروسي، وان أي محاولة لتغيير نظام الحكم في سوريا سوف يمس المصالح الروسية العليا ويزيد من عزلة روسيا ويحصر وجودها ونفوذها العسكري في مناطق محددة، كما ان روسيا تدرك ان عملية التغيير التي يحاول الكثير من الأطراف تجربتها في سوريا قد لا تقف عند تغيير نظام الحكم وانما يتعدى ذلك الى انهاء المصالح الروسية بشكل كامل ومحاولة لإيجاد نظام حكم موالي لهذه الأطراف.
وعليه ومنذ الحرب على ليبيا ادركت روسيا ان الدور الذي مارسته في عدم الانحياز لأي طرف من اطراف الصراع وامتناعها عن التصويت في مجلس الامن ضد قرار التدخل في ليبيا افقد روسيا الكثير من المكاسب الجيوستراتيجية المرتبطة بالهيبة والمكانة الدولية، لذا فهي تعمل على منع تكرار المشهد الليبي، وهذا ما أكد عليه الرئيس بوتن فقد أشار "ان تغيير السلطة في سورية ممكن فقط في اطار الدستور، معلنا ان "لا احد يملك الحق في ان يقرر نيابة عن الشعوب الأخرى ومن يجب ان يأتي الى السلطة ومن يجب ان يذهب".
ثانيا: الوجود العسكري الروسي في سوريا
روسيا تحتفظ بتواجد عسكري في سوريا وكما تشير المصادر الرسمية الروسية ان مهمة هذه القوات تكمن في اطار دعم القوات السورية في مسائل التدريب والدعم اللوجستي ولم تشارك في عمليات قتالية مباشرة. ولعل هذا التواجد العسكري كان وما يزال محكوم بحجم المصالح الروسية في سوريا، فهذا الوجود العسكري قد يتطور الى مستوى المشاركة الفعلية في المعارك على الأرض اذ ما تعرضت المصالح الروسية الى تهديد مباشر، وهذا الامر اصبح واضحا لاسيما مع تطورات المشهد في الأراضي السورية فقد انهكت القوات النظامية السورية وأصبحت الحرب مكلفة لجميع الطراف المشاركة فيها نتيجة عدم الحسم، وهذا ما دفع روسيا الى تعزيز وجودها العسكري والانتقال من مهمات الاستشارة والتدريب الى إمكانية القيام بعمليات عسكرية، ولاسيما بعد اعلان الولايات المتحدة الامريكية عن رصدها تحركات روسية عسكرية مكثفة في سوريا وقد تكون هذه التحركات في اطار تشكيل تحالف إقليمي دولي جديد ضد الارهاب الذي اعلن عنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتن تكون سوريا طرف فيه إضافة الى ايران ودول أخرى.
يضاف الى ذلك أعلنت الولايات المتحدة الامريكية وعلى لسان وزير الخارجية جون كيري بان "الولايات المتحدة قلقة إزاء التقارير المتعلقة بأنشطة عسكرية روسية في سوريا"، كما أشار مسؤولون امريكيون بان روسيا أرسلت سفن محملة بالدبابات والطائرات وعدد من مشاة البحرية الروسية، يضاف الى ذلك احتمالية انشاء مهبط للطائرات في مدينة اللاذقية الروسية"، كما أكد ذلك وزير الخارجية الروسي في 13/9/2015 الى ان "بلاده ستواصل الامدادات العسكرية الى سوريا"، مع نفي تعزيز التواجد العسكري الروسي المباشر في هذا البلد.
ثالثاً: مستقبل التدخل العسكري الروسي في سوريا
لعل حجم وطبيعة التدخل العسكري الروسي في سوريا مقترن بمجموعة من الاعتبارات منها الوضع العسكري على الأرض وحجم التهديد للمصالح الروسية، فضلا عن التدخل المحتمل من قبل تركيا والولايات المتحدة الامريكية ودول الخليج في اطار التحالف الدولي لمحاربة الارهاب، ولمعرفة احتمالات التدخل العسكري الروسي وطبيعته يمكننا طرح مجموعة من الاحتمالات ولعل أهمها:
الاحتمال الأول: الانغماس العسكري الروسي المباشر
وهذا الاحتمال يفترض ان روسيا سوف تتدخل بشكل مباشر في العمليات العسكرية الجارية في سوريا او في اطار تحالف إقليمي دولي يضم الحكومة السورية الحالية واطراف إقليمية اخرى، وما يدعم تحقيق هذا الاحتمال الآتي:
1. التهديد الحقيقي للمصالح الروسية في سوريا، نتيجة سعي الولايات المتحدة الامريكية وحلفائها أضعاف روسيا وانهاء وجودها العسكري المباشر في المنطقة.
2. ان احتمالات التدخل العسكري تزداد بعد ما ربطت روسيا مكانتها وسمعتها الدولية ببقاء النظام السوري الحالي، فاذا تراجعت روسيا عن ذلك فانه سوف يؤثر على سمعتها ومكانتها الدولية، ويؤدي الى زعزعة ثقة حلفاء روسيا بإمكانية حمايتهم بالمستقبل.
3. ان مؤشرات تزايد الوجود العسكري الروسي في سوريا في الآونة الأخيرة يزيد من احتمالية المشاركة الفعلية والعلنية في المعارك على الأرض ومن خلال استخدام السلاح الجوي الروسي لإسناد القطعات البرية.
4. ان احتمالية وجود حكومة جديدة بديلة عن حكومة بشار الأسد في سوريا قد تنتهي بموجبها المصالح الروسية وهذا امر لا يمكن ان تقبل به روسيا.
5. كما ان احتمالية المشاركة الروسية المباشرة في العلميات العسكرية مع تزايد نفوذ تنظيم داعش الإرهابي في سوريا، يرافقه تراجع قوة ونفوذ الفصائل المسلحة الأخرى.
الاحتمال الثاني: تراجع روسيا عن التدخل العسكري المباشر في سوريا
هذا الاحتمال يفترض تراجع احتمالات تدخل الروسي بشكل مباشر وعلني في العمليات العسكرية في سوريا نتيجة الآتي:
1. إدراك روسيا ان تكاليف الحرب قد تكون باهظة في ظل تراجع أسعار النفط الى ادنى مستوياتها وقد تدخل روسيا في حرب استنزاف تؤثر على اقتصادها واوضاعها الداخلية. او ان هناك استراتيجية لتوريط روسيا في سوريا كما فعلت الولايات المتحدة الامريكية للاتحاد السوفيتي عند التدخل في أفغانستان عام 1979.
2. يمكن ان يتراجع احتمالية التدخل الروسي في سوريا اذ ما تطورت مسارات العمليات العسكرية لصالح أطراف معتدلة تفتح حوار مباشر مع سوريا، تصمن من خلاله روسيا مصالحها في سوريا.
3. هناك احتمالية تراجع التدخل العسكري الروسي، اذا ما ادركت روسيا ان هذا التدخل قد يتحول الى مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة.
ولكن في إطار الأوضاع الحالية المقترنة بالتردد الأمريكي على حسم الصراع في سوريا مع عدم قدرة أي طرف إقليمي على حسم الحرب لصالحة تبقى احتمالات التدخل والانغماس العسكري الروسي في سوريا امر محتمل ووارد لاعتبارات المصالح الاستراتيجية الروسية.
اضف تعليق