هل فكّر المعنيون بذلك طيلة العشرين سنة الماضية، أو العشر الأخيرة في الأقل؟.. إنَّ خصخصة قطاع السكن في العراق مثلما خصخصة القطاع الصحي وغيرهما، يعني بيع البلاد للمستثمرين ورهن مستقبل المواطن العراقي لسوق المزايدات وتذبذب سعر العملة، أي دفعه إلى منطقة الظلام، وهذا شكلٌ من أشكال الإرهاب الناعم...
من بين أهم واجبات الدولة تجاه مواطنيها، توفير السكن اللائق لهم، وهذا يأتي في سياق دعم العاملين في مؤسسات الدولة أولا، كونهم مفرغين لخدمتها وليس لديهم دخلٌ إضافي، وإنَّ توفير السكن لهؤلاء يعني رفع الضغط عن سوق العقارات، بحيث يصبح بإمكان المواطنين غير العاملين في مؤسسات الدولة الحصول على عقارات بأسعار مناسبة.. وقد كنَّا نسمع بأحياء تقترن مسمياتها بأسماء مؤسساتها، مثل حي المعلمين والمهندسين والحي العسكري وحي السكك.. إلخ من المسميات التي تحيل إلى أن الدولة ومنذ تأسيسها مطلع القرن الماضي، أولت أهميَّة استثنائيَّة لإسكان موظفيها، وعدّته ركنًا أساسيًّا من أركان استقرارها وتنميتها، كون الأمر يتعدى الإسكان بمعناه التقليدي، إلى تنمية وبناء الأسرة، فالأحياء تلك كانت تتكامل فيها الخدمات الأساسية، كالماء والكهرباء والطرق والأسواق بالإضافة إلى المدارس، التي تعدُّ ضمن التصميم الأساسي لتلك الأحياء.
لقد تعرض المشروع التنموي في العراق، إلى ضربةٍ قاسيَّةٍ بسبب الحروب منذ مطلع الثمانينيات وصولا إلى الشلل شبه التام في فترة حصار التسعينيات.. بعد العام 2003 ورفع الحصار اعتقد كثيرون بأن قطاع الإسكان سيكون من أبرز اهتمامات الدولة الجديدة، لأن البيوت تحوّلت إلى خزاناتٍ بشرية، لا سيما في المناطق الشعبيَّة والفقيرة، التي تضررت كثيرًا في سني الحصار، وصار البيت الذي لا تتجاوز مساحته مئة وخمسين مترًا مربعا، يسكنه أكثر من خمسة عشر فردا، ولك أن تتخيل الضغط على الخدمات البسيطة أصلًا المتوفرة فيه، وكيف يمارس هؤلاء حياتهم في هذه البقعة الصغيرة، فضلا عن تقطيع الكثير من البيوت الكبيرة إلى (نتف) سكنيَّة تحت مسمى (المشتملات)؟!
تشهد بغداد اليوم، وبعد الاستقرار الأمني، الذي بدأ قبل بضع سنين، نهضة عمرانية غير مسبوقة، تتمثل بكثرة المجمعات السكنية، التي راحت ترتفع بناياتها العمودية في اكثر من مكان، ويتم الاعلان عنها من قبل المستثمرين في وسائل الاعلام المختلفة، لكن السؤال الأهم هو؛ من يستطيع شراء شقة حديثة بأربعمئة ألف دولار وأكثر؟
واذا كان لا بدَّ من الاستثمار لعجر وزارة الإسكان عن ذلك، فلماذا لاتقوم كل وزارة في العراق، باعتماد الإسلوب نفسه، وتبني لموظفيها عشر عماراتٍ سكنيَّة في كل محافظة وبالتدريج، أي تقوم سنويا ببناء اكثر من عمارة في كل محافظة على أن تسدد المبالغ بالتقسيط من قبل الموظفين الراغبين، وبذلك لا تتحمل الوزارة تكاليف البناء أو تتحمل القليل وتوفر لمنتسبيها السكن اللائق، وإن مدة عشر سنوات كافية لتغطية جميع موظفي الدولة، وفي الوقت نفسه يقلُّ الضغط تلقائيًّا على سوق العقارات وتنخفض أسعارها أمام غير الموظفين.
فهل فكّر المعنيون بذلك طيلة العشرين سنة الماضية، أو العشر الأخيرة في الأقل؟.. إنَّ خصخصة قطاع السكن في العراق مثلما خصخصة القطاع الصحي وغيرهما، يعني بيع البلاد للمستثمرين ورهن مستقبل المواطن العراقي لسوق المزايدات وتذبذب سعر العملة، أي دفعه إلى منطقة الظلام، وهذا شكلٌ من أشكال الإرهاب الناعم، ان صحّت التسمية، ويحصل بعلم الدولة ورضاها.. ولا بد من العودة إلى التنمية الشاملة، التي هي مسؤوليَّة كل دولة تحترم نفسها وتحترم شعبها.
اضف تعليق