الدنيا من يفوز بها هو الخفيف، يعيش فيها سعيدا ومرتاحا، ولا يكون متضخما بالأشياء التي حوله وبالتفاصيل التي تحيط به، فتسرق منه لبّ حياته، وتأخذ منه عمقها، فيكون بلا معنى، ويكون منغمسا في الماديات فقط، فيكون ثقيل النفس والروح والجسم. الراحة الحقيقية لا تكمن في الماديات وإنما هي...
الاستهلاك المفرط والشراهة المتوحشة بالطمع والحرص الشديد على الدنيا والتكالب الاعمى على الماديات، وتضخم نزعات الأكل والشرب والملبس، جعل العالم هشّا يعيش الكوارث والأزمات، عالما متفكّكا نتيجة للسلوكيات المادية المفرطة في الاستهلاك والترف والتجمّل والإسراف والتبذير.
فكل سلوك عندما يتشكل عند الإنسان، ويصبح راسخا وثابتا في نفس الإنسان، وغير قابل للتغيير، يبدأ بالتكوين من ثلاثة عناصر:
أولا: الجانب الفكري.
ثانيا: الجانب العملي السلوكي.
ثالثا: الجانب النفسي.
تبدأ هذه المراحل واحدة بعد أخرى، حتى يتشكّل السلوك، فإذا كان لابد أن يكون الإنسان أمينا في ذاته وفي سلوكه وفي نفسه، وهذه الأمانة راسخة في نفسه، ولا يكون خائنا قطّ، ولا يسرق، فهذا الإنسان لابد أن يعتقد بالأمانة في فكره، وأن الأمانة هي نجاة للإنسان وأن الخيانة هي عاقبة سيئة للإنسان.
هذا التفكير يؤدي بالإنسان إلى أن يمارس عملية الأمانة باستمرار، ويستمر بالعمل في الأمانة حتى تصبح سلوكا راسخا في داخله وأعماقه، فيكون محصنا من الخيانة، ملتزما بالأمانة، وهكذا مع الصفات الأخرى، كالصدق والنزاهة.
عملية تشكيل وبناء الزهد
وكذلك الزهد الذي نقصده وهو يتكون من ثلاثة عناصر:
أولا: الجانب الفكري وهو القناعة.
ثانيا: الجانب العملي وهو الكفاف.
ثالثا: الجانب النفسي وهو العفاف.
هذه العناصر الثلاثة، تشكل عملية بناء الزهد الذي يقوم بدوره بعملية بناء الجانب المعنوي عند الإنسان في رؤيته للماديات، وبالتالي يحيط بالإنسان ويحصنه من الانزلاق وراء شهواته وأهوائه، والوقوع في فخ الترف والتجمّل والإسراف والتبذير الذي يحيط بهذا العالم، وذلك الانغماس الكبير الذي يعيشه العالم اليوم من ناحية التوجه نحو الماديات.
الاكتفاء بالكفاف والاكتساء بالعفاف
1- ان تشكيل السلوك يبدأ أولا بالبرمجة الفكرية عبر القناعة، فعن الإمام علي (عليه السلام): (إذا أراد الله بعبد خيرا ألهمه القناعة فاكتفى بالكفاف واكتسى بالعفاف)(1)، والإلهام: ما يلقى في القلب من معان وأفكار يبعثه على فعل الشيء أو تركه. فالإلهام ما يقع من العقل في ذهن الانسان فيوجهه نحو سلوك الخير، ومايقع في الذهن من اهوائه فهو وهم يقوده نحو سلوك الشر، وفي كلا الامرين فهو معرفة ذاتية تقود الانسان الى الاقتناع بأمر ما، وتتحول هذه القناعة إلى برمجة فكرية، بعد أن يؤطّر فكره ويقولبه نحو اختيار سلوك معين.
فالعقل يلهم الانسان بأن القناعة كنز لا يفنى، وان الكنز الحقيقي هو القناعة، وذلك ينتج ان هذا القناعة الفكرية تجعله راضيا بحياته.
2- الممارسة العملية عبر (واكتفى بالكفاف) أي يكون مكتفيا ولا ينظر إلى الآخرين، في أكله وصرفه ورزقه وكسبه واكتسابه بما يؤدي إلى اكتفائه ولا يبحث عن حد أعلى من الكفاف، بحيث لا يتجاوز المحظورات ولا يعبر الحدود الأخلاقية والشرعية، فلا يؤذي قلبه ونفسه بالرذائل التي يتعرض لها الإنسان كنتيجة لعدم وجود حالة الكفاف في قلبه كالحسد والطمع والحرص على الدنيا، التي تقوده وراء الماديات.
وهذه الرواية تبين لنا عملية بناء البرمجة السلوكية، وكيف يقتنع الإنسان في داخله، فالناس في بعض الأحيان يقتنعون داخل أنفسهم وأفكارهم بأن هذا الشيء الذي يمتلكوه لا يكفي، فيذهبون للكسب بأية طريقة كانت لكي يحصلوا على الكثير الكثير لكي يؤمّن مستقبله، فينزلق نحو الحرام والرشوة والفساد والاحتيال والخيانة وغش الناس، ببيع البضاعة الزائفة، لأن الفرد منهم يشعر بأنه ليس مكتفيا، ولا يقتنع بما عنده، ويعتبر حياته ناقصة. وهذا النقص الذي يشعر به يجعله بالنتيجة يتجاوز حد القناعة وحد الكفاف، ويسقط في المحظورات.
أيسر ما في الدنيا يكفيك
وعن الإمام علي (عليه السلام): ("ابن آدم"، إن كنت تريد من الدنيا ما يكفيك، فإن أيسر ما فيها يكفيك، وإن كنت إنما تريد ما لا يكفيك، فإن كل ما فيها لا يكفيك)(2)، أي برمجوا أفكاركم بهذه الطريقة، حيث يمكنك أن تفكر مع نفسك، ما هو الشيء الذي تريده في هذه الدنيا، وما هو الشيء الذي يكفيك، فإن أيسر وأقل شيء في الدنيا يكفيك، ما الذي تحتاجه أنت بالضبط؟، إنك تحتاج إلى ملابس وطعام بسيط، يمنحك الستر اللازم والتغذية الجيدة ويعطيك الحياة الصالحة والسكن المقبول والكرامة الإنسانية في الحياة.
هذا التفكير يكفيك بشكل تام، لهذا عليك أن لا تفكر بشراء سيارة فارهة، وإنما عليك أن تكتفي بسيارة بسيطة وعادية وهي تمثل أيسر ما يكفيك، ولا تبحث عن الأكثر ولا تكن طماعا، ولا تكن حريصا على الدنيا.
إن الإنسان على سبيل المثال إذا كان صادقا في تفكيره فسوف يحصل على ثقة الناس، ويعتبرونه صادقا وأمينا فيحصل على ثقتهم، فيكون ناجحا في حياته، أما إذا كان لا يعتقد بالصدق والأمانة، وكان كاذبا وخائنا في فكره، ففي هذه الحالة هو لا يفكر بالعواقب، فمهما يفعل بعد ذلك من عمل جيد فالناس لا يثقون به ولا يعتقدون به ولا يعملون معه، فيكون فاشلا وخاسرا في حياته.
القناعة والإشباع الذاتي
هذه البرمجة الفكرية والسلوكية مهمة للإنسان بأن يفكر بالعواقب ويحسب النتائج، عبر بالطرق التي توصله إلى الصحيحة منها، وهذا هو معنى إن كنت إنما تريد ما لا يكفيك فإن كلَّ ما فيها لا يكفيك، فإذا كنت تعتقد بأن ما موجود عندك لا يكفيك، فالحقيقة إن كلّ شيء لا يكفيك، فإذا كنت تمتلك بيتا واحدا وتعتقد أنه لا يكفيك، فإن حصلت على البيت الثاني فلا يكفيك أيضا، وإذا حصلت على البيت الثالث لا يكفيك أيضا.
إذا كنت تمتلك مليون دينار وشعرت أنه لا يكفيك، فإن المليون الثاني والثالث والرابع وإلى مئة 100 مليون وإلى مليار فهذه كلها لا تكفيك، فالبرمجة الذاتية تشعرك بأنك لم تحصل على القناعة والاشباع الذاتي، فقلبك لم يشبع ولم يكتفِ، روحك لم تشبع، فالإشباع النفسي والذاتي وعملية برمجة الفكر وبرمجة النفس والتحكم بالشهوة تتحقق من خلال عملية التفكير عند الإنسان.
الإنسان يفكّر، ثم يعمل، فيكون هذا العمل له نتائج نفسية عند الإنسان، وهكذا، فإن كنت تعتقد بأن الأشياء تكفيك، فإن أبسط هذه الأشياء سوف تكفيك، ولكن إذا كنت لا تعتقد بأن هذه الأشياء تكفيك، فإن كل ما موجود في هذه الدنيا لا يكفيك، ولا تشبع، وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (منهومان لا يشبعان: طالب علم، وطالب دنيا، فأما طالب العلم فيزداد رضى الرحمن، وأما طالب الدنيا فيتمادى في الطغيان)(3)، فطالب الدنيا لا تشبعه أبدًا، أما طالب الآخرة ستكون الدنيا صغيرة عنده، فيكون مكتفيا شبعانا، ولا يحتاج إلى أكثر مما يكفيه.
بناء السعادة النفسية
هذه البرمجة الفكرية والسلوكية لها دور كبير في عملية بناء السعادة النفسية، الاستقرار النفسي، الحصانة النفسية، فهذه البرمجة الفكرية أما أن تؤدي إلى سلوك سيّئ أو إلى سلوك صالح، لذلك لابد أن نراقب أفكارنا، وأن نأخذ الأفكار الصحيحة من المصدر الاصلي، وهو منهج أهل البيت (عليهم السلام).
في مناهج أخرى تقول لك إذا أردت أن تربح أو تنجح، فإن الغاية تبرر الوسيلة ولو كانت معصية، هذا توجيه خاطئ، فالغايات لا تُدرَك بالمعاصي، وإنما لابد أن تُدرك بوسائل الاستقامة والسلوكيات والأخلاقيات الصحيحة، هذا المنهج في التفكير يتطلب من الإنسان أن يراقب نفسه، ولا يكون طماعا ولا حريصا على الدنيا.
سلسلة لا تنتهي من الطلبات
وعن الإمام علي (عليه السلام): (إنكم إلى القناعة بيسير الرزق أحوج منكم إلى اكتساب الحرص في الطلب)(4)، فأنت تحتاج إلى أن تكون قنوعا، لا تحتاج إلى المال، ولا تحتاج إلى أكثر من حاجتك، ماذا تحتاج في حياتك، هل تحتاج إلى المال أم إلى بناء القناعة في نفسك، وبناء عفة النفس في شخصيتك، ماذا تحتاج؟
هذا هو المهم حقا في حياتك، فأنت تحتاج إلى الصدق في حياتك، وإلى الأمانة، هذه هي الحاجة الحقيقية، وليست الدنيا، وليس المال، وليست السيارات والقصور والملذات والماديات، هذا هو معنى الحاجة الحقيقية، أي أن تكون قنوعا باليسير. أكثر مما تكون حريصا في طلب الأشياء وفي الاستهلاك، فما دمت لست مكتفيا بالطلب سوف يؤدي بك هذا إلى سلسلة متوالية لا تنتهي من الطلبات.
هذا هو الإدمان على الماديات، ومعنى أن يكون الإنسان مدمنا على شيء معين، أي يرجع له باستمرار، فهناك إفرازات هرمونية داخل الإنسان حين يتعوّد على عادة معينة يتم إفراز هذه الهرمونات في جسم الإنسان، تؤدي به إلى الإدمان على هذه العادات(5)، فعندما يكون مدمنا على طلب الدنيا وطلب المال، ومدمنا على الطلب المستمر، سوف يكون بالنتيجة مدمنا ويصبح مريضا نفسيا.
أهمية الرياضة الفكرية
الإدمان هو مرض نفسي، يحدث بتعاطي العادات السيئة التي لا يعالجها الإنسان، ولذلك فإن الرياضة الفكرية مهمة جدا، حيث تقود الإنسان إلى الرياضة العملية التي تقودنا بدورها إلى استقرار هذه الحالة النفسية، فتكون ثابتة وغير متغيرة في نفس الإنسان.
وعن الإمام علي (عليه السلام): (لَأَرُوضَنَّ نَفْسِي رِيَاضَةً تَهِشُّ مَعَهَا إِلَى الْقُرْصِ إِذَا قَدَرْتُ عَلَيْهِ مَطْعُوماً وَتَقْنَعُ بِالْمِلْحِ مَأْدُوماً)(6)، فالامام (عليه السلام) يأتي لنا بمثال عن الطعام لأنه أكثر شيء يبتلي به الإنسان في حياته اليومية، فغالبا ما يأكل الناس أكثر من حاجتهم حتى يُتخَمون ويمرضون ويُصابون بأمراض كثيرة كالسمنة والسكري لأنهم لا يأكلون بقدر حاجتهم.
فلذلك يحتاج إلى ترويض النفس من خلال بناء الفكرة في داخل الإنسان، فعليكم أن تبدأوا أولا بأفكاركم، وازرعوا الفكرة المناسبة في عملية بناء النفس المتماسكة والصامدة، حيث أقود نفسي بإرادتي، ولا أترك الطعام يسيطرُ عليَّ، ولا أسمح لنفسي أن تسيطر عليَّ، فمن خلال التحكم بأفكاري أقود نفسي واتحكم بها، ولا تأخذني نفسي إلى هنا وهناك، حيث الوقوع في المحظورات والسقوط في مفاتن الدنيا، ويصبح طماعا وشرها ومفرطا في الاستهلاك.
فهذا النوع من الرياضة وترويض النفس يبدأ من خلال برمجة الفكرة على هذا الأمر، عبر ممارسة قائمة على الاستقامة، فلا فائدة في أن تكون الفكرة موجودة عندك لكنك لا تقوم بتطبيقها، وهناك كثير من الناس لديهم أفكار جيدة في أذهانهم لكنهم مصابون بالكسل والاستسلام للأمر الواقع، فتتلاعب به شهواته وحبه المفرط للطعام، أو لمتعة معينة، فيكون منقادا لغرائزه، لهذا فإنه يتعرض للخسارة ويكون مهزوز النفس، وسلوكه عشوائي، فقد يتحكم بطعامه هذا اليوم، لكنه في اليوم الثاني يستسلم للطعام اللذيذ الذي يعتقد بأنه مهم له فينهار أمام هذا الطعام.
الممارسة المنظمة
لذلك يحتاج هذا الإنسان إلى ممارسة منظمة لضبط العملية العشوائية والسلوك السائب وغير الثابت له، فيجب أن يكون عنده سلوك ثابت متراكم مستمر، حتى يكتسب القيمة النفسية باستمرار، لذلك يحتاج أن يمارس الضبط النفسي باستمرار، كالتحكم بالغضب مثلا حيث يحتاج إلى ممارسة مستمرة لكي يواجه الإنسان المواقف التي تستثير الغضب، ففي كل لحظة وفي كل يوم يواجه هذه المواقف عليه أن يكتم غضبه ويسيطر عليه ويكون هادئا في حياته وفي سلوكه، وهكذا يمارس عملية التحكم بالغضب إلى أن تصبح عملية ثابتة عند الإنسان.
لذلك فإن تطبيق الجانب العملي من الزهد، يأتي من ناحية الكفاف، أن يكفّ الإنسان عن طلب الفائض، مكتفيا بالحاجة التي تنقصه فقط، ويمنع نفسه عن ذلك يوميا، فإذا رأى الطعام لا يأكل الزائد منه، ولا يشتري اللباس الزائد عن حاجته، وإذا رأى حاجة لا يحتاجها عليه أن لا يشتريها، ويكتفي بالقدر الذي يحتاجه في حياته.
تذليل الشهوات
هذه الممارسة العملية مهمة جدا، تضبط شخصية الإنسان، وتضبط قدرته على إدارة شهواته، والتحكم بها وهو يهشّ نفسه، أي يسيّرها ويقودها، ولا تسيّره نفسه، وهو الذي يسيّر شهواته ولا تسيّره شهواته، ويكون تابعا ومطيعا لها، فيكون ذليلا أمامها، لذا عليه أن يذلّل شهواته، ويتحكم بها ويكبح جماحها ويسيطر عليها من خلال عملية الكفاف. فيضع حدودا لطلبه، وقواعد عملية للسلوكيات والعادات اليومية له.
وعن الإمام علي (عليه السلام): (وَلَا تَسْأَلُوا فِيهَا (الدنيا) فَوْقَ الْكَفَافِ وَلَا تَطْلُبُوا مِنْهَا أَكْثَرَ مِنَ الْبَلَاغِ)(7)، أي لا تسألوا في الدنيا فوق الكفاف، ولا تطلبوا أكثر مما يبلّغكم إلى مقصدكم، هذا من الناحية المادية، لكي يأخذ الإنسان في حياته ما يبلّغه لحاجات جسده فقط، فلا يحتاج لأكثر من ذلك، فيرتقي بروحه ونفسه ويسيطر عليها، ويكون متعقّلا ملتزما مسؤولا متحكما بنفسه، ومسيطرا على ذاته.
وهكذا يسمو الإنسان بروحه ويتكامل وينمّي طاقاته الفكرية والمعنوية والعقلية بشكل متصاعد، على العكس من ذلك، إذا أخذ الإنسان أكثر مما يحتاجه، حيث يتسافل الإنسان حتى يصبح عبدا ذليلا لشهواته، والمقصود بالبلاغ، ما يبلغ بكم إلى هدفكم، ويحقق لكم المطلوب وليس أكثر من ذلك، فإن كنت تحتاج إلى خمس كيلوغرامات من الرز في الشهر عليك أن تشتري هذه الكمية فقط، ولا تشترِ 50 خمسين كيلو غراما، لأن هذا الشراء يدل على الحرص على الدنيا وهو أكثر من البلاغ، فعليك أن تشتري ما يكفيك من الطعام لشهر، ويجب أن يستمر الإنسان على هذه الممارسة العملية لما يبلغه في حياته.
الغرق في التفاصيل المادية
وعن الإمام علي (عليه السلام): (وَمَنِ اقْتَصَرَ عَلَى بُلْغَةِ الْكَفَافِ فَقَدِ انْتَظَمَ الرَّاحَةَ وَتَبَوَّأَ خَفْضَ الدَّعَةِ)(8)، أي يكون مجمِلا مكتفيا ولا تكون هناك تفصيلات إضافية في حياته، المجمل مقابل التفصيل، المقتصِر أي يكون مكتفيا بأشياء معينة، بقدر حاجته وما يحتاجه، وغالبا ما يحب الإنسان أن يعيش في التفاصيل المادية، وإذا أصبح غاطسا في التفاصيل المادية الكثيرة، يصبح عبدا لهذه التفاصيل، فمثلا إذا يرغب بهذا الكرسي سوف يريد هذه الطاولة أيضا، ثم يريد هذا التلفاز ويريد هذا وذاك حتى يغرق في عالم التفاصيل الكثيرة.
نضرب مثالا عن العيش في التفاصيل الكثيرة، لنتصور أنك دخلت في أحد المنازل، ثم دخلت في غرفة فيها الكثير من الكراسي، والمقاعد، والطاولات، والتحفيات، بحيث لا يوجد لك مجال للجلوس، فتختنق لعدم وجود فضاء في هذه الغرفة، وهكذا أصبحت هذه الغرفة بدل أن تكون مريحة، لكي ترتاح فيها قليلا، أصبحت حبيسا فيها، بسبب الأشياء التي تحيط بك والتي سلبت منك المكان الواسع الذي يمنحك الراحة والاطمئنان والاستقرار النفسي والانتظام في عملية بناء الهدوء النفسي، أما هذا الوضع في هذه الغرفة فهو نوع من الصخب، لأن الغرفة الممتلئة بالتفاصيل تكون صاخبة، تكتظ بالضجيج رغم عدم وجود صوت، الضجيج لا يعني الصوت فقط، وإنما هو كثرة الأشياء التي تحيط بك.
كلما تكون الأشياء حولك قليلة، تكون خفيفا مستريحا، وهذا هو معنى (فقد انتظم الراحة)، أي تكون راحته مستقرة، (وتبوّأ خفض الدعة)، الدعة تعني السعادة، والراحة، والاطمئنان والاستقرار، فيكون الإنسان مستريحا ولا توجد لديه أشياء كثيرة تنغص عليه.
مشكلة ثقافة التكديس
في قضية سلمان الفارسي عندما كان حاكما على المدائن، كانت حياته بسيطة جدا وكان زاهدا جدا، ولم يكن يمتلك سوى أشياء بسيطة هي البساط الذي كان ينام عليه والإبريق والمصحف والسيف، فعندما حصل حريق في المنطقة، هبَّ الناس جميعا من أجل إنقاذ ممتلكاتهم. فأخذ سلمان مصحفه وسيفه، وخرج من الدار وقال: "هكذا ينجو المخفون"(9).
وهكذا هي الدنيا فمن يفوز بها هو الخفيف، يعيش فيها سعيدا ومرتاحا، ولا يكون متضخما بالأشياء التي حوله، وبالتفاصيل التي تحيط به، فتسرق منه لبّ حياته، وتأخذ منه عمقها، فيكون بلا معنى، ويكون منغمسا في الماديات فقط، فيكون ثقيل النفس والروح والجسم.
هذه ليست راحة حقيقية، الراحة الحقيقية لا تكمن في الماديات، وإنما هي في النفس وفي الروح، وفي الاستقرار النفسي والاطمئنان، أنا متأكد من أنك إذا أردت أن تعيش حالة نفسية جيدة فتخلّص من الأشياء التي حولك، وافتح غرفتك وبيتك، ودع هناك مساحة من الفراغ كي تتنفس تنفسا طبيعيا، وتشعر بالراحة، يمكنك أن تجرّب ذلك.
تخلّص من الأشياء الزائدة، تبرّع بها، أعطِها لمن يحتاجها، ولا تجعل نفسك ملْكا للأشياء التي حولك، ولا تكن منصاعا لشراء هذا الشيء أو ذاك، فهناك كثير من الناس أصبحوا يعيشون ثقافة التكديس، يكدسون الأشياء التي لا يحتاجونها في حياتهم، ويشترون الأشياء ثم يكدسونها وهي غير نافعة لهم، بل هو مجرد إسراف في الطلب، وإسراف في تكديس التفاصيل التي يرغب بها. فالسعادة هي في بُلغة الكفاف(10).
الوصول الى العفاف
3- البرمجة النفسية: الرضى بالكفاف يؤدي إلى العفاف، فعن الإمام علي (عليه السلام) يقول: (الرضا بالكفاف يؤدي إلى العفاف)(11)، فالإنسان الذي يرضى عمليا بما يكفيه، سوف يتمتع بحالة نفسية جيدة بسبب عملية بناء العفاف في داخله.
في مقالنا القادم سوف نبحث الجانب النفسي في العفاف، ولكن أنا أتصوَّر يجب أن يقوم الإنسان بممارسة عملية لتحصيل الزهد في داخله، ويحصل داخليا على الاستقرار النفسي والراحة العقلية والذهنية، من خلال الممارسة اليومية للتخلص من الأشياء الفائضة التي توجد حوله، ويبني عالما جميلا من البساطة، يبني الحياة البسيطة، الزاهدة، التي توصله بالنتيجة إلى الراحة النفسية الحقيقية والشعور بالهدوء والاطمئنان والاستقرار.
وللبحث تتمة...
اضف تعليق