q
عالم شرق المتوسط والمناطق الحافة به من آسيا وأفريقيا يشكل معاقل ومخازن ومنابع الهوية والتركيبة النفسية والاجتماعية لمجتمعات وأفراد عالم الإسلام المعاصر، ويتجذر في التقارب التاريخي والتراثي الرسمي والشعبي بين الأصول العرقية والثقافية التي استقرت في هذا العالم الممتد بين آسيا وأفريقيا والذي يشكل شرق المتوسط مركزه التاريخي...

لقد شكل الإسلام منذ ظهوره في القرن السابع الميلادي تحديا صارخا وقويا أمام الحضارات والامبراطوريات والديانات السائدة في ذلك العصر، لقد بدا فريدا غريبا غير قابل للبقاء في بيئته المكية فضلا عن العربية ولم يكن يتوفر على مؤهلات الاستجابة الفكرية والثقافية للمجتمع المكي فضلا عن العربي، لقد كان حدثا استثنائيا على مستوى الوجود الذاتي للدين وعلى مستوى الوجود الموضوعي للتاريخ، ترى كيف يقدر لدين آمن به فرد ثم تبعته امرأة ثم تبعه غلام قد اشتد عوده، كان هؤلاء الثلاثة يؤدون صلاتهم في زحمة انشغال العالم كله عنهم وعن دينهم الجديد وعن صلاتهم تلك التي لم يشاركهم فيها أحد في العالم.

هكذا بدا الإسلام غريبا يعتزل العالم ويسعى الى تأسيس عالم في الدنيا بل عالم في الاخرة مع إمكانات لا تعدو الإيمان والإرادة، لكنه عالم يمتثل القيم العليا للأديان الإلهية التي خبا في كتابها صوت النبوة وتراجعت أولويات الوحي فيها، وكانت لحظة انبعاث النبوة في الإسلام على شفا أزمنة فترت فيها النبوة ولم يعد لها تلك المناخات التي اعتادت على التواصل فيها وشيوعها في مجتمعات الإنسان منذ نبوة النبي إبراهيم كما أخبرتنا كتب أديان اليهود والنصارى، وأخبرتنا كتب تاريخ الإسلام أنها فترة في النبوة[1] استمرت على مدى ستة أو سبعة قرون[2] من تاريخ الإنسان وقد أطلق عليها إسلاميا "زمن الفترة".

ليفاجأ الناس والتاريخ بانبعاث النبوة من جديد في واد غير ذي زرع عند بيت من بقايا أصول النبوة الأولى وبصمتها الخالدة في تلك الأرض المقفرة إلا من عطاءات الوحي، وكان ذلك التحدي الأول ذا المنحى الوجودي فوق التاريخي والفائق على الطبيعي والمنصهر في تلك الاستثناءات الوجودية ومن ثم التاريخية الكبرى.

كان تحديا بكل ما يستوعبه معنى التحدي من مستلزمات التعريف وموجبات انطباق المعنى عليه، فرد في عزلة عن العالم وفي غار ينفرد بلقاء الوحي ومن ثم يرسم مخططا للعالم على أثر هذا اللقاء وليعلن بعد ذلك عن إرادة في تنفيذ مخطط تغيير العالم وكان له ما أراد فهل يصنع ذلك إلا نبي؟ كما يقول توفيق الحكيم[3].

لقد عاش الإسلام التحديات الكبرى منذ اللحظة الأولى ولكن المراس في قدرته على استيعاب التحديات كفلت له الديمومة والاستمرار، فقد شغفت به شعوب الأرض في عالم شرق المتوسط الذي دخله على أثر الفتوحات الإسلامية مع ملاحظة كل الاختلافات التي اقترفتها تلك الفتوحات مع النص الأول وروح الدين الذي حملته على رؤوس الأسنة، وكان مفترضا بها أن تحمله على متن الحكمة والموعظة الحسنة، وفي استثنائية تاريخية تشكل قدرة الإسلام في استيعاب التحديات تبنت تلك الشعوب في عالم شرق المتوسط هذا الدين الجديد بعد إن تسلمته من الفاتحين العرب وانشغلت بإعادة انتاجه وبنائه وتكوينه من جديد.

فنشأت مدارس العلم الإسلامي الأولى وبمشاركة كل الأقوام التي اعتنقت الإسلام حديثا عربا وعجما، وكانت مدارس مكة والمدينة والكوفة والبصرة نواة ذلك العالم الجديد الذي سار بهدي التخطيط النبوي وبنور الوحي في غار حراء، وفي تعليق مقارب جدا يقول إرنست غيلنر (الإسلام مسودة لنظام اجتماعي، فهو يفترض وجود مجموعة من القواعد الأزلية والمنزلة، وهي قواعد مستقلة عن إرادة البشر وتحدد النظام الصحيح للمجتمع، وهذا النموذج موجود كتابة وكذلك موجود بشكل منسق ومتساو لدى كل المتعلمين، وكل من ليس لديهم مانع للاستماع للمتعلمين، وهذه القواعد ينبغي أن تنفذ في كل الحياة الاجتماعية)[4] وهكذا بدت مدارس وعلوم الإسلام في شرق المتوسط تصوغ قواعد وأسس المخطط النبوي للحياة الاجتماعية في العالم وكان البدء في عالم شرق المتوسط.

لقد كان قبول هذا الدين/الإسلام في مناطق العالم القديم في شرق المتوسط واستحواذه النفسي والعاطفي على مشاعر وأحاسيس شعوب هذا العالم الذي يعد مهد الحضارات الأولى يتم بمشاركة العرب الفاتحين في الانتماء الى عالم شرق المتوسط هذا، وهو قبل ذلك تعبير في قبوله وانتمائه عن قوة العزم والإرادة في هذا الدين وعن انتمائه المتجذر في عوالم الروح التي ينغمر بها دائما عالم شرق المتوسط والمناطق الحافة به في أجزاء واسعة من آسيا وأفريقيا، وتعبير عن قدرته بإزاء التحديات التاريخية والاجتماعية في ترسيخ الانتماء له في عالم النبوات قبل الفترة وترسيخ الانتماء إليه في عالم شرق المتوسط والمناطق الحافة به الذي غدا تاريخيا ومنذ هذه اللحظة إسلاميا، مضمونا وشكلا، تقليدا وثقافة.

ثم في مرحلة لاحقة حين انعكست اتجاهات الفتوحات وحملات الغزو فصارت أرض الإسلام ودوله وشعوبه أمام موجات الغزو القادم من أقاصي الشرق تقوده البداوة المتوحشة والوثنية المغولية، وفي استثنائية تاريخية وتجاوز لحتميات التاريخ البشري في تقليد المغلوب للغالب وانطباع تقاليد وأفكار الفاتحين في ثقافة وقناعات شعوب البلدان المفتوحة لا سيما عنوة، فإن دين وعقيدة المغلوبين من المسلمين انطبعت في عقول وقناعات الفاتحين والغالبين فاعتنقوا الإسلام دينا ورفعوا راية هذا الدين مجددا وبنوا دولهم وإماراتهم وممالكهم تحت لوائه وشعاراته، وهي أحوال لم نشهدها في تاريخ البشر السياسي والديني ولم تنبئنا أحداث التاريخ عن أمة مغلوبة قلدتها أمة غالبة إلا في تاريخ عالم شرق المتوسط عالم الإسلام خاصة.

وحين خسر عالم الإسلام قوته وتراجعت إماراته وممالكه وعطبت العلاقة بينه وبين عقيدته وانخرط علمائه وفقهائه في حومة السلطان وإدارته وصار العلماء بمعية الأمراء وصاروا يشاهدون على أبواب السلاطين والملوك وغابت عن مشاهد الأمة وقوف الملوك على أبواب العلماء وتوسل السلاطين بالأولياء، وانشغلت ملوك الإسلام وسلاطينه بصراعات المذهبية وأزمات الطائفية وكفت حضارته عن إعادة إنتاج مقومات وجوده وقوته، وصار المسلم يعرف باسم طائفته ومذهبه وانفرطت علاقات الإسلام بالداخل وانشغلت سياساته عن تحديات الخارج في ظل الصراع العثماني – الصوفي، فقدت دول الإسلام وشعوبه القدرة بإزاء التحديات الحديثة أو ما عرف عنها بتحديات الحداثة التي ابتنت على الجانب المعرفي في أول أمرها ثم في الجانب الاقتصادي في ثاني مراحلها ثم في الاستعمار في ثالث وأخطر مراحلها، وفيها أستبيحت مقدرات دول الإسلام وأمتهنت كرامة الدول المسلمة تحت شعار الغرب المستعمر في مسؤوليته ووظيفته بإزاء الشعوب المتخلفة أو الشعوب القاصرة وضرورة فرض الوصاية عليها لقصورها الذاتي العقلي والثقافي ثم عدلت الى شعار الانتداب بعد إن لمست فيها بوادر النضج على غرار النموذج الغربي.

وكان لابد للإسلام أن يستشعر التحدي وأن يبدأ العقل الإسلامي في سؤال ذاته لماذا تأخرنا وتقدم غيرنا؟ وكان سؤال النهضة كما أصطلح عليه وشرعت الإجابات عليه، وعلى مدى مئة عام قد استغرقت القرن العشرين كله كانت الاجابات تترى وتتكاثر لكن دون جدوى وتنوعت في مصادر أيديولوجياتها، فمن الشروحات القومية الى التحليلات اليسارية الى البلاغيات الإسلامية ذات الصبغة السياسية، وكلها ظلت تدور مدار التنظير والفكر النظري دون أن نلمس لها تطبيقا او نموذجا على الصعيد العملي.

وفي عقيدتي لأنها لم تنطلق من بعد حضاري وثقافي ينبعث عن الهوية الإسلامية المختزنة في هوية عالم شرق المتوسط والأجزاء الحافة به من آسيا وأفريقيا، بقدر انبعاثها تلك الأيديولوجيات واجاباتها من معاقل وثقافة عالم غرب المتوسط وشماله أو ماعرف بالعالم الغربي وتأثيراته النظرية والفكرية عليها، حتى البلاغيات الإسلامية الحديثة جاءت رغم تضاداتها منساقة بإزاء أفكار الغرب الليبرالي.

إنها خطابات تتبع مسارات هذا الفكر البرجوازي في حقول الديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة والمساواة بل والاشتراكية، وكانت تسعى دائما الى توكيد تبني الإسلام لهذه المفاهيم والأفكار، وهي لحظة الانحطاط الأولى في الفكر السياسي لمنظري الحالة الإسلامية الحديثة وتعبير عن التخلي الحضاري والثقافي للاستثنائية الإسلامية الأولى في تقليد الغالب للمغلوب، لقد أمست تلك البلاغيات الإسلامية تعمل على تقليد الغرب الغالب دون شعور منها بأزمة تتعمق في ذاتها المغلوبة والمستعمرة، ويشاركها في ذلك التوجه والى حد بعيد بل وسابق عليها الفكر القومي العربي في تضمينات أيديولوجيته التي أدمنت الهزيمة السياسية في كل مراحلها، واما الفكر اليساري العربي فإنه يشير تصريحا وليس تلميحا الى تبنيه أفكار ونظم الفكر البرجوازي أو افكار عالم غرب المتوسط وشماله رغم الاعتراضات التي يبديها كارل ماركس تجاه مبادئ البرجوازية الغربية في حقوق الإنسان وديمقراطياته التي تساعد على بقاء السلطة في أيدي الطبقة البرجوازية والرأسمالية الحديثة.

إن عالم شرق المتوسط والمناطق الحافة به من آسيا وأفريقيا يشكل معاقل ومخازن ومنابع الهوية والتركيبة النفسية والاجتماعية لمجتمعات وأفراد عالم الإسلام المعاصر، ويتجذر في التقارب التاريخي والتراثي الرسمي والشعبي بين الأصول العرقية والثقافية التي استقرت في هذا العالم الممتد بين آسيا وأفريقيا والذي يشكل شرق المتوسط مركزه التاريخي ومركزه العلمي الذي انطلقت بوادر التأسيس الأولى منه في مكة والمدينة والكوفة والبصرة، وقد كفل ذلك التأسيس خصوصيات وسمات الإنتاج الفكري الخاص بهذا العالم الذي نظم الإسلام هوية وثقافة تكوينه الإنساني والاجتماعي، وانتظمت شعوبه في عقد إسلامي تسلل الى مكامن اللاوعي الاجتماعي لدى هذه الشعوب فلا زالت تثيرها قضية إسلامية في أخر الأرض عنها، وتؤلبها مسألة إسلامية قضت أكثر من ثلثي قرن لاتجد لها حلا إلا تحت صياغة هوية إسلامية وهي مسألة فلسطين والقدس بما تشكله القدس من مركزية تاريخية وجغرافية في عالم شرق المتوسط.

ولايشكل ذلك الطرح غرابة تاريخية أو أحجية شرقية كما يبدو للبعض ممن أقنع ذاته ووعيه بمغادرة عالم الشرق الى عالم الحداثة الغربية، فقد تشكل عالم غرب المتوسط وشماله وفق مقولة الأصول الإغريقية والرومانية والثقافة المسيحية – اليهودية، ولازال عالم الغرب يغذي هذا الشعور القومي والكامن العنصري في روح أفراده وثقافته وتحت مسمى العالم الحر او العالم المتحضر، وتسري تطبيقاته العملية في مؤسساته الخاصة والمقصورة على عالمه وعناصره القومية كمنظمة الاتحاد الأوربي والسوق الأوربية المشتركة وحلف الناتو، وقد بدا التعامل مع حرب اوكرانيا على هذه الأسس القومية والعنصرية واضحا في خطابات ومساندات الرؤساء والقادة الأوربيين.

ويبدو أن دول الشرق الكبرى تنبهت الى الجغرافيا السياسية الخاصة بالحضارات التاريخية وماتفرضه من وعي حضاري وثقافي بالذات الشرقية، فشرعت تعمل على إعادة توجيه حركة التاريخ بما يضمن عدم وقوعها في أسر عالم الغرب مرة أخرى بعد عصر الاستعمار، وتوجيه قواها الذاتية نحو إعادة بناء الهوية والتوكيد على خصوصيتها الثقافية الشرقية وهو ما بدا واضحا في خطاب الرئيس بوتين أمام نواب الشعب الروسي وممثليه.

ونؤشر في هذا الاتجاه أيضا التقارب الإسلامي بين دول المنطقة من جهة والتقارب مع روسيا والصين من جهة أخرى وهو يعكس محورية الإسلام ومركزيته في عالم شرق المتوسط وهو الدور الذي تنبهت له دول الشرق الكبرى وعمدت أخيرا الى تقوية الأواصر والعلائق بينها وبين عالم شرق المتوسط، على أمل أن يكون باتجاه بناء عالم شرق المتوسط من جديد ذلك العالم الذي لم يكف عن إعادة إنتاج الحضارة أو الحضارات في كل التحولات التاريخية التي مرت عليه.

* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–Ⓒ2023
http://shrsc.com

...........................................
[1] - مروج الذهبب، أبي الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي، دار الأندلس، ج1:ص78
[2] - تاريخ الطبري، أبي جعفر محمد بن جرير الطبري، منشورات أرومية، ج1ص633-
[3] - تحت شمس الفكر، توفيق الحكيم، مكتبة مصر دار مصر للطباعة، ص32 -
[4] - مجتمع مسلم، أرنست غيلنّر، ترجمة د.أبو بكر أحمد باقادر، دار المدار الإسلامي، ص17-

اضف تعليق