تلجأ أميركا على مستوى الأزمات الدولية والإقليمية الى سياسات تفاوضية غير جادة في قطع دابر الأزمات والمشاكل التي تواجه دول آسيوية وأفريقية أحيانا وتعويلها على الوعود بإنهاء الصراعات السياسية والمسلحة دون أن تحقق إنجازا ملموسا أو حلا واقعيا في الوصول الى اتفاقيات واضحة أو معاهدات سلام دائم، فاللعبة...
تقوم الولايات المتحدة الأميركية بإدارة مصالحها القومية في العالم وفق استراتيجيات محددة مسبقا في السياسات الخارجية الأميركية وتكاد أن تكون تلك السياسات متطابقة أو متشابهة في سياسات كلا الحزبين الحاكمين في أميركا الديمقراطي والجمهوري، ورغم اختلاف البرامج الانتخابية والسياسات الحكومية التي يتبناها كلا الحزبين في مرحلة الانتخابات الرئاسية وفي مرحلة الحكم أو الوصول الى البيت الأبيض فإن الاستراتيجيات الحاكمة في السياسات الخارجية تظل واحدة وموحدة وفق مبدأ المصالح القومية العليا للولايات المتحدة الأميركية، ولذلك لا نشهد تغييرات واضحة أو فارقة في تلك السياسات رغم اختلاف الرئيس المنتخب أو الحزب الذي يحقق أغلبية في الكونغرس بشقيه مجلس الشيوخ ومجلس النواب.
ولعل واحدة من أهم السياسات الخارجية المتبعة في الولايات المتحدة الأميركية هي ما يمكن تسميته بذر التراب في العيون في المفاوضات الخارجية التي تتعلق بالخلافات السياسية والعسكرية والأمنية مع دول العالم من خارج أوربا أو دول الاتحاد الأوربي أو أعضاء حلف الناتو، فهذه الدول مجتمعة على التوافق مع السياسات الخارجية الأميركية ومطيعة بشكل ومضمون سياسي لكل التوجهات الأميركية في إدارة الأزمات والحروب في العالم ولذلك لم تكن تلك الدول في يوم ما طرف في مفاوضات ثنائية أميركية – أوربية أو أميركية – حلف ناتو فالموافقات السياسية والقبول بالسياسات الأميركية وتأييدها هو المنحى العام في سياسات دول أوربا ودول حلف الناتو.
ولكن تكمن مكامن التعقيد وعقد الجدل القائم في السياسات الخارجية الأميركية مع دول آسيا وليس كل دول آسيا وإنما تلك الدول التي لازالت تحتفظ بتصورات وعقائد سياسية حول استقلالها وسيادتها وتأمين مصالحها القومية وبمعزل عن التدخلات والتأثيرات الأميركية، وتعد دول مثل روسيا والصين وايران وتركيا نوعا ما والعراق الى حد ما واليمن وسوريا ولبنان عقد مستحكمة في السياسات الخارجية الأميركية وامتدادات لأزمات تاريخية سابقة ورثت عن حقبة عالم ثنائي القطبين أو عالم الحرب الباردة التي كانت تهيمن على العلاقات بين أميركا وآسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية.
وقد استطاعت الولايات المتحدة الأميركية تجاوز تلك الحرب بفضل قوتها المادية الاقتصادية والعسكرية واخضاع الكثير من دول المعسكر الشرقي الى إرادتها وهيمنتها وبلا قوة التدخل العسكري أو الأمني وإنما عبر الإغراءات الاقتصادية والسياسية وشعارات حقوق الإنسان والمساواة والتي لم تجني منها شيئا سوى دول أوربا الشرقية التي لم تصفوا أيضا لها تلك الانجازات فدخلت في مشاكل التهديدات الأمنية والعسكرية واحتمالات الدخول في الحرب مع روسيا الناهضة بقوة إرادة سياسية في استعادة موقعها في أوربا الشرقية وفي العالم ككل.
وتلك أهم سمات ومميزات السياسات الخارجية الأميركية في صنع الأزمات وإدخال الدول وأنظمة الحكم فيها والشعوب في صلب أزمات مستديمة ومشاكل سياسية وأمنية تستمد عناصر بقاءها وديمومتها من وسائل إدارة أميركا للأزمات في العالم خارج أميركا وأوربا، ولعل واحدة من أهم سمات واستراتيجيات إدارة أميركا للأزمات هو إدامتها واستبعاد الحلول الدائمة والاستعاضة عنها بالحلول المؤقتة والقابلة لاستعادة أخطار تلك الأزمات متى شاءت الولايات المتحدة الأميركية ومصالحها.
ومن هنا تلجأ أميركا على مستوى الأزمات الدولية والإقليمية الى سياسات تفاوضية غير جادة في قطع دابر الأزمات والمشاكل التي تواجه دول آسيوية وأفريقية أحيانا وتعويلها على الوعود بإنهاء الصراعات السياسية والمسلحة دون أن تحقق إنجازا ملموسا أو حلا واقعيا في الوصول الى اتفاقيات واضحة أو معاهدات سلام دائم، فاللعبة الأميركية والمعبر عنها بالدبلوماسية تتأسس وفق قاعدة إدامة الصراعات في المنطقة إقليميا وزعزعة الأمن السياسي والعسكري دوليا.
ومن هنا كانت الولايات المتحدة الأميركية تسعى بشكل دائم الى إثارة الأزمات الداخلية في بلدان المنطقة عبر تشجيعها إعلاميا وسياسيا على ترسيخ المسميات الطائفية والمحفزة على استعادة الصراعات الطائفية ومحاولة تجذيرها في دولنا وفي ثقافة وأيدولوجيات مجتمعاتنا، فلم نجد تصريحا ولو واحدا للمسؤولين في البيت الأبيض يستعمل عبارة أو مصطلح الشعب العراقي بل كان التعبير السائد هو مصطلح المكونات ومسميات الشيعة والسنة العرب والكرد ثم ترسيخها سياسيا واجتماعيا من خلال التشجيع أو ممارسة المفاوضات بإشراف خليل زاده والحاكم المدني بريمر وتحت تلك المسميات، ولم تسعى الإدارة الأميركية بشكل ومضمون جاد في إنجاح تلك المفاوضات بل عملت على تعزيز الاستبعادات بين فئات المجتمع العراقي حتى كانت النتيجة هي الحرب الداخلية المناطقية والمذهبية في العراق.
لقد كانت النية مبيتة وفق الاستراتيجيات الأميركية في صنع هذا الصراع الطائفي وادامته عبر تسهيل قدوم المنظمات الارهابية الى العراق وتمديد حالة الاسترخاء الداخلي بواسطة مفاوضات واجتماعات غير مجدية بل ومثبطة مع المسؤولين العراقيين على اختلاف توجهاتهم وانتماءاتهم الدينية والمذهبية، لقد كانت نسخة من طبيعة وحقيقة الرؤية الاستراتيجية الأميركية في إدارة هكذا مفاوضات.
وقد تكررت مرة أخرى تلك السياسات التفاوضية الأميركية وطريقتها في إدارة الأزمات في المنطقة في الحرب السورية الداخلية فقد بادرت الى التدخل الأمني والسياسي وبما يمس سيادة واستقلال الدولة السورية وتموضعت في منصبها الدولي باعتبارها الدولة العظمى في العالم ومكلفة أخلاقيا وفق ادعاءاتها الفارغة بإحلال السلام ومنع الحروب والمنازعات، فأشرفت على المفاوضات بين الدولة السورية والمجموعات المعارضة والمسلحة والساعية الى اسقاط النظام السياسي في سوريا، وكان إشرافها على تلك المفاوضات يتم تحت مسميات دولية باهتة المضمون وغير واقعية الشكل وبمعونة دول أوربا الغربية التي كانت أحد أهم مغذيات الصراع في سوريا والمشجعة على استدامة الحرب بين السوريين.
لقد كانت نتيجة تلك المفاوضات هو الفشل المتكرر في كل اللقاءات التي جمعت وفود الحكومة السورية والجهات والأحزاب المعارضة في عواصم بعض الدول المحايدة وبعضها السائرة في الفلك الأميركي، لقد كانت نتائج الفشل مبيتة في النوايا الأميركية والأوربية بإزاء وضع حد للاختلافات السياسية ومحاولات ايجاد صيغ في الحلول تدفع الى إنهاء الحرب بين السوريين وإقامة نظام سياسي يتوافق عليه طرفا الحرب في سوريا، ولذلك لم تصنع المفاوضات التي كانت بإشراف الولايات المتحدة الأميركية ودول أوربا سلاما حقيقيا بين السوريين بل تركت الأطراف المتحاربة الى مصيرها المجهول لاسيما المعارضة التي ذهبت ضحية أوهامها السياسية واعتقادها الخاطئ بالمعونة الأميركية والغربية في دعمها في حربها على نظام الحكم في سوريا.
بل أن أميركا والغرب حقق ما تطمح إليه خططهم السياسية والأمنية بتدمير الدولة السورية باعتبارها دولة صد ومقاومة ضد إسرائيل وضد المشروع الأميركي والغربي في المنطقة وكان لها ما أرادت، وكانت أحد أهم وسائلها أي الولايات المتحدة الأميركية هو أدوات التفاوض كأحد أهم آليات إدامة الصراع من أجل استنزاف كلا الطرفين المتحاربين باعتبارهما يشكلان أو ينتميان الى عقائد جهادية معادية بالنتيجة الى الغرب وأميركا وإسرائيل، وتلك الخطيئة الكبرى التي وقعت فيها المنظمات والأحزاب الإسلامية السورية لا سيما الإخوانية منها وهي تؤكد ظاهرة الغباء السياسي التي تتسم به تلك العقليات السياسية الإسلاموية وهو ذات الخطأ الذي وقعت فيه التنظيمات الإسلامية العراقية والتي جنت فيه على تاريخها وعقائدها وشعبها.
وللتدليل على عقم المفاوضات التي تنتهجها الولايات المتحدة الأميركية وهو عقم يشكل مبدأ أساسيا في الاستراتيجية الأميركية هو تبنيها وإشرافها على المفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين منذ قمة كامب ديفيد ومؤتمر أوسلوا وسياسات التطبيع العربي مع إسرائيل إلا أنها ظلت اتفاقات ومعاهدات ناقصة وغير مكتملة في إنجاز وعودها وتحقيق ادعاءاتها في صنع السلام في المنطقة الذي اوهمت به الولايات المتحدة أطراف الصراع في المنطقة، وآخر تلك الممارسات الأميركية في تسيير المفاوضات الدائمة الفشل في تحقيق السلام في المنطقة هو انتهاجها سياسات الوعود السياسية والإعلامية في إمكانية الوصول الى حل بين إسرائيل وحماس في ما يتعلق بأزمة الحرب على غزة التي تخوضها إسرائيل وقد بدا ذلك واضحا في التصريحات المباشرة للمسؤولين الأميركيين ابتداء من رئيس الولايات المتحدة الأميركية بايدن الى وزير الخارجية بلنكن الى الناطق باسم البيت الأبيض وغيرهم من المسؤولين الأميركيين الذين كانت تصريحاتهم وكلماتهم في مؤتمراتهم الصحفية ولقاءاتهم الدبلوماسية تؤكد وبشكل مذهل في الكذب على قرب التوصل الى حل وأن الامور باتت قيد الإمكان في فرض او فرص السلام وإنهاء الحرب على غزة واطلاق سراح المختطفين أو الأسرى الإسرائيليين عند حماس واطلاق سراح المعتقلين والأسرى الفلسطينيين وعودة النازحين من غزة أو الهاربين من غلاف غزة من الإسرائيليين.
وكانت تلك المفاوضات بالنسبة للقناعات الأميركية وتتشارك معها القناعات الإسرائيلية تؤدي وظيفة الاسترخاء في الموقف العربي والموقف الدولي المعارض لهذه الحرب وكذلك فرض حالة الاسترخاء هذه على الموقف الفلسطيني الذي ظل يتعرض دائما الى الضغوط العربية باتجاه القبول بالمفاوضات والدخول أحيانا في مفاوضات غير مباشرة مع الوفود الإسرائيلية في القاهرة أو في الدوحة.
وفي المخطط الأميركي وبالتشارك أيضا مع المخطط الإسرائيلي فإن إدامة تلك المفاوضات وإطالة الإمكان الزمني فيها بالحرص على استمرارها ودون جدوى إنما يمهد ويهيأ الإمكان الزمني المطلوب بالنسبة لإسرائيل في تمكينها من توسيع السيطرة جغرافيا على غزة واحتلالها على مراحل لا تكلف الجيش الإسرائيلي خسائر كبيرة في الأرواح والمعدات وكذلك توفر لها قدرة زمنية كافية في تتبع حركات وأفراد وقيادات حركة حماس من اجل تصفيتها والقضاء عليها تباعا وهو ما حدث فعلا في ظل استمرار المفاوضات غير المجدية وعلى مدى اكثر من عام كامل في الدوحة والقاهرة، وقد توقفت اخيرا تلك المفاوضات ولم نسمع عنها شيئا بعد إن تم القضاء على القدرات العسكرية والفردية لحركة حماس من وجهة نظر أميركية وإسرائيلية وأصبحت حماس مهددة حتى من قبل الدولة المضيفة لها لقد حدث كل ذلك تحت إجراءات الدبلوماسية الأميركية وطريقتها الاستراتيجية والدائمة في إدارة المفاوضات والتي تنتهي غالبا بإفشال الطرف الاخر المفاوض في الحصول على مطالبه وتحقيق رغباته. ولنا في المفاوضات النووية الأميركية – الإيرانية خير مثال على عقم المفاوضات الأميركية في تركيبة ومبادئ الاستراتيجية الأميركية في إدارة الأزمات ومنطق المفاوضات المتبع لديها.
اضف تعليق