تهدف إسرائيل من خلال ذلك المشروع الامبريالي الى تبرير وجودها دوليا وتاريخيا باعتبارها دولة تقوم على أسس دينية توراتية ويهودية عنصرية بحكم الطبيعة السياسية والثقافية في المنطقة المقسمة سياسيا الى دويلات دينية طائفية وأخرى عرقية عنصرية، واضعاف تلك الدول عن طريق انشغالها بصراعات لازالت تغذي مشاعر الكثير من النخب...
أخيرا عاد الحديث من جديد مع نتنياهو عن الشرق الأوسط الجديد وكشف عن سعيه أو هدفه كما يدعي في حربه على غزة وعلى جنوب لبنان في إقامة شرق أوسط جديد وهو ما يمهد الى عالم جديد في أمنياته غير المعلنة، والخطوة الأهم في تلك الأمنيات الضالة هو التمهيد الى انتماء إسرائيل دولته المصطنعة الى هذا العالم الذي يضعه نتنياهو دائما في ما توحيه إليه الأسطورة التوراتية في حدود إسرائيل الكبرى.
وفي أخطر سياسة اعلامية يمارسها رئيس وزراء دولة تعاني أزمات الوجود على كافة مستوياته ويحاول نقل تلك الأزمات الى العالم المحيط به أو دول المنطقة الحافة بكيانه المغتصب، فإنه يستعرض أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة خريطة جديدة للشرق الأوسط تكشف عن مخطط مبيت أدواته الحروب في إعادة تشكيل المنطقة ورسم خارطة عابثة بأنظمة دول المنطقة السياسية، والهدف غير المعلن في خطابه هذا هو العبث أخيرا بحدود هذه الدول واصطناع حدودا مسخا بين قوميات وأديان وطوائف شعوب هذه الدول الحافة بكيانه.
ورغم ان مشروع الشرق الأوسط الجديد كان في محاولته الأولى وفق ما رسمته وخططت له وعملت على تنفيذه الإدارة الأميركية في عهد الجمهوريين وبرئاسة بوش الابن من خلال حربها وغزوها العراق تحت ذرائع السلاح النووي حينا، وحينا تحت شعار الديمقراطية وحقوق الإنسان، لكن الزيف بدا واضحا في تطبيقات السياسة الأميركية في العراق فهي عملت على ترسيم الحدود العرقية والثقافية وأخطرها المذهبية-الطائفية بين فئات الشعب العراقي وصنعت من مفاهيم الهويات الفرعية بديلا عن الهوية العراقية، التي تستند الى المشتركات التاريخية والاجتماعية والثقافية بين هويات العراق الفرعية، الى أن وصلت وتمكنت من ازاحة الانتماءات الى الوطن الأكبر الى الانتماءات العرقية التي تحولت الى العنصرية والانتماءات المذهبية التي تحولت الى الطائفية، وبذلك برزت حقيقة مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي بشرت به الولايات المتحدة الأميركية في تقسيمات خارطة الوطن الى إقليم كردي وإقليم شيعي وإقليم سني.
والمستقبل المخطط له وفق المشروع الأميركي هذا كان هو تحويل تلك الاقاليم الى دول متحاربة ومتنازعة تشغلها أزمات الجغرافيا في الحدود وأزمات التاريخ في العلاقات، ورغم النجاحات الجزئية التي حققتها اميركا في انجاز هذا المشروع سيء الصيت في العراق إلا انها فشلت في الوصول الى غاياته الكبرى واهدافه المبيتة في الاحتلال، فقد حافظ العراق بقدر مهم وكبير على وحدته السياسية والإدارية فضلا عن تماسكه الاجتماعي والثقافي والذي عطل بنفس الوقت مشروعات إلحاقه بفلك ثقافات بدت طارئة ومشوهة القيم والمفاهيم بعد إن تخلت تلك الثقافات الرأسمالية – الأميركية والغربية عن القيم والفضائل التي أرساها التاريخ الأخلاقي للبشرية.
لكن أعاد ذلك المشروع إطلالته المشؤومة مرة اخرى مع نتنياهو الذي استقطب في شخصيته وأيدلوجيته وسلوكه السياسي والعدواني كل قواعد وأفكار التدمير المتعمد التي انتهجتها الاستراتيجيات الأميركية والتي لا شك في أنها على صلة بكل أيدولوجيات دولة إسرائيل، ومن هنا ينشأ العمق الأيدلوجي والأصل الفكري الذي ينطلق منه نتنياهو في طرحه مشروع الشرق الاوسط والخارطة الجديدة فيه.
وقد استطاع نتنياهو في آخر تصريح له الادعاء بتحقيق نبوءته الضالة في تغيير وجه الشرق الأوسط بعد انهيار الدولة السورية وسقوط نظام الحكم فيها، وهنا يطرح سؤال هل وراء هذا الادعاء تصدق التوقعات بوقوف اسرائيل وراء ما حدث في سوريا أم انها محض مصادفات السياسة ونتائج اضطراب المنطقة وارتباك الأحوال السياسية فيها.
ولكنها وفي كل الأحوال تنسجم والهدف السياسي والاستراتيجي المخطط له في دوائر الاستخبارات الأميركية وأروقة البيت الأبيض وفي مخططات الموساد الاسرائيلي الذي تحدث عنه الراحل محمد حسنيين هيكل قبل ثلاث عقود وكشفته صحيفة ايديعوت احرنوت في نهاية العقد السادس من القرن العشرين حول تقسيم دول المنطقة الحافة بإسرائيل الى دويلات عرقية وطائفية، إذ تكون لبنان مقسمة بين المسيحين والسنة والشيعة ومصر مقسمة بين القبط المسيحين والمسلمين وسوريا بين السنة والشيعة والكرد والعراق وبذات التقسيم في سوريا بل المخطط يصل الى المملكة السعودية وتكون مقسمة الى منطقة شيعية وأخرى سنية.
وتهدف إسرائيل من خلال ذلك المشروع الامبريالي الى تبرير وجودها دوليا وتاريخيا باعتبارها دولة تقوم على أسس دينية – توراتية ويهودية عنصرية بحكم الطبيعة السياسية والثقافية في المنطقة المقسمة سياسيا الى دويلات دينية – طائفية وأخرى عرقية – عنصرية، وتهدف كذلك وضمن هذا المخطط الى اضعاف كل تلك الدول عن طريق انشغالها بالصراعات العرقية والطائفية وهي صراعات تاريخية لازالت للأسف تغذي مشاعر الكثير من النخب السياسية في المنطقة وفئات كبيرة من شعوب المنطقة، لينتهي أخيرا بها المطاف في توقعنا نحو استجداء الدعم اليهودي – الصهيوني من أجل محاربة الأخوة - الأعداء الذين يجمعهم دينا واحدا أو وطنا وقد أصدقت هذه التوقعات بعض التجارب السابقة والحالية والمؤسفة في التحالف مع إسرائيل ضد الأخوة–الأشقاء في صراعاتهم السياسية والعسكرية ضد إسرائيل أو ضد بعضهم البعض.
إن وصول إسرائيل الى هذه التحالفات وانجازاتها يعد بذاته هدفا استراتيجيا أعلى بالنسبة الى إسرائيل الكبرى وهو يشكل الخطوة الأولى نحو الحلم الصهيوني–التوراتي في امتداد حدود إسرائيل الى الفرات والنيل، إذ ستكون أثمان المساندة الإسرائيلية لهذه الدويلات المسخ العرقية والطائفية مكلفا لشعوب ومصالح المنطقة، والثمن المقدم هو الاستحواذ العسكري ومن ثم السياسي الرسمي على جغرافيا وتاريخ المنطقة والتي تشكل فكرة الاستحواذ على هذه المنطقة أحد أهم الأسس التي تقوم عليها عقيدة أرض الميعاد والموعودة توراتيا بتمليكها الرباني المزعوم الى شعب إسرائيل والذي بدت بوادره الأولى في محاولات ضم غزة والضفة الغربية والمستوطنات الأخرى الى إدارة واستحواذ الحكومة الإسرائيلية.
اضف تعليق