مكافحة التفاهة يجب أن تتم وفق معايير دقيقة، كي لا تتوسع أو يجري استغلالها للمس بحرية التعبير، لأننا شعوب اعتنقت التطرف سلباً أو ايجاباً، وما نحتاجه هو أن نخلق توازناً في المعالجات، وألا نسمح بالتمادي فيها بما يعود بنتائج عكسية، الردع يجب أن يترافق مع خطة تثقيفية لأصحاب المحتوى الهابط...
الحملة الإعلامية بداية، والقضائية لاحقاً ضد التفاهة والهبوط دليل على حجم الخطر الذي باتت تشكله هذه الظاهرة، هذه الحملة حققت أمرين: دقّ ناقوس الخطر وتنبيه المجتمع إلى خطورة ما يجري من تفاهة وهبوط في الذوق والأخلاق، والثاني: تحريك الجهات القضائية والتنفيذية باتجاه خطوات جدية لمواجهة هذه الموجة.
وما حدث من ملاحقة واعتقال عدد ولو قليل من ناشري الهبوط والتفاهة، أدى إلى ردع الباقين منهم، الهدف هو الردع، وما حدث دليل على أنه بالقانون وجديّة الجهات المسؤولة في تنفيذه يمكن حماية المجتمع وردع المنتهكين والمتطاولين على أمن الناس ومصالحهم، لا يقتصر الامر على المحتوى الهابط ومنشورات التفاهة، إنما تسري القاعدة على كل المستويات الأخرى، فغياب هيبة القانون والجدية في تنفيذه كان سبباً رئيسيا في انتشار الفساد والجريمة وضياع حقوق الناس، والفوضى التي نشهدها طوال عقدين في كل المجالات.
السكوت الطويل على تنامي هذه الظاهرة أدى إلى تفشيها، والحل ليس بالقسوة المفاجئة إنما بإجراءات رادعة فقط، التفاهة لا تخص ما ينشر عبر وسائل التواصل، بل أن كثيرا من شاشات التلفزة تعج بالتفاهة والضحالة.
برامج لا تقدم سوى الميوعة والضحالة وبذيء الكلام باسم الحوارات الفنية والشخصية، هذا ما يحتاج إلى متابعة أيضاً، لدينا هيئة الاعلام والاتصالات بقانون واضح، وضوابط شاملة للخطاب الإعلامي الذي يتوجب على الوسائل الإعلامية الالتزام بها.
المطلوب تفعيل دور الهيئة في عملية المراقبة، لتتجاوز محطات المرئي والمسموع إلى وسائل التواصل، وأن تتم العملية بالتعاون مع اللجنة التي شكلتها وزارة الداخلية وباقي الاجهزة الأمنية ومعهم القضاء الذي يثمّر جهودهم.
قد لا تستطيع هذه الإجراءات وقف التدهور تماماً، لأن مصادره عالمية ومحلية، لكنها تستطيع على الأقل وقف المحلي منها وخلق ثقافة رفض لها كسبيل للوقاية.
مسيرة التفاهة عالمية، تقودها شركات كبرى، وخطط جهنمية لا تستهدف شعوباً دون أخرى، وهو ما تحدث عنه بإسهاب واحباط الكاتب الكندي الان دونو في كتابه الشهير «نظام التفاهة»، الذي جرى الانتباه الواسع لمضمونه مؤخرا، رغم أن طبعته العربية صدرت عام 2015.
نظام التفاهة يقود المجتمعات إلى الاستهلاك والكسل والتحلل، وما تفعله أدوات هذا النظام اليوم ممثلة بالتقنيات الاتصالية المتطورة، هو تحويل الإنسان إلى كيان تافه في تفكيره وذوقه، فضلا عن تغييب المعايير الأخلاقية في سلوكه، بل وقلبها رأساً على عقب، فيصبح التافه محترما والراقي محل استهزاء.
مكافحة التفاهة يجب أن تتم وفق معايير دقيقة، كي لا تتوسع أو يجري استغلالها للمس بحرية التعبير، لأننا شعوب اعتنقت التطرف سلباً أو ايجاباً، وما نحتاجه هو أن نخلق توازناً في المعالجات، وألا نسمح بالتمادي فيها بما يعود بنتائج عكسية.
الردع يجب أن يترافق مع خطة تثقيفية لأصحاب المحتوى الهابط للمتلقين كيف يتحصنوا ضده، ودعم أصحاب المحتوى الهادف كي يجسدوا ثقافة استثمار التقنيات في البناء بدل التدمير.
اضف تعليق