يثار بين الفينة والأخرى جدل بيزنطي حول تسمية تاريخية معينة، أو حدث تاريخي عفا عليه الزمن، لأسباب ونوازع مختلفة، منها ما يرتبط بالتسويق السياسي للحدث، لتحقيق مأرب وأهداف آنية. وعادةً ما تكون إثارة مثل هكذا أحداث ومواضيع خلافاً للمعطيات التاريخيّة والجغرافيّة، وهذا النهج يندرج ضمن الاستدعاء السيء والسلبي للتاريخ...
يثار بين الفينة والأخرى جدل بيزنطي حول تسمية تاريخية معينة، أو حدث تاريخي عفا عليه الزمن، لأسباب ونوازع مختلفة، منها ما يرتبط بالتسويق السياسي للحدث، لتحقيق مأرب وأهداف آنية. وعادةً ما تكون إثارة مثل هكذا أحداث ومواضيع خلافاً للمعطيات التاريخيّة والجغرافيّة، وهذا النهج يندرج ضمن الاستدعاء السيء والسلبي للتاريخ في الوقت الذي يتطلب فيه استقراء وكتابة التاريخ وعي منهجي وحسّي، ويُقصد بالوعي المنهجي هنا، هو التجرّد عن الذات بما يُفضي الى الطرح الموضوعي في معالجة الحدث التاريخي.
ومن المعروف أن استدعاء التاريخ يتم في أكثر اللحظات قتامةً وقلقاً، لكن المؤسف أن كثيراً من هذا الاستدعاء يأتي مزوراً ومغيباً للكثير من الحقائق التاريخية، محملاً ما لا يحتمل لتشويه الواقع، وهذا ما يظهر جلياً من خلال بعض وسائل الإعلام المختلفة، وما ينشر هنا وهناك.
الأمر الآخر الذي يمكن تصنيفه ضمن الاستدعاء السلبي للتاريخ هو التعكز على ما يمكن تسميته بالثوابت التاريخية والتي تمثل التاريخ الرسمي للملوك والسلاطين، وهو عبارة عن سرد تاريخي يتماشى مع أهواء وميول الحاكم، والتي جرت العادة على تناقله عبر الأجيال باعتباره من المسلّمات التاريخية غير القابلة للطعن او التشكيك، ووضعت في ذلك أمهات الكتب التاريخية.
لقد كان التاريخ لدى البعض ولا يزال ملعباً وملاذاً لترجمة طموحات مريضة، وخلق ثقافة تاريخية مزيفة ومزورة، وفقاً لقواعد متطرّفة وجاهلة لا علاقة لها بمنهج البحث التاريخي المعروف، فهذا البعض يقرأ التاريخ لغرض واحد هو إعادة انتاج أحقاده وتمريرها لمآرب خاصة من أجل إفساد العقول وخنقها في هذه الدوامة. وهذا الأمر يستوجب البحث عن آليّات علميّة وعمليّة للخروج من هذه الدوامة.
ونعتقد أن الحل يكمن في دراسة خط الانحراف بأمانة كاملة في تاريخنا، مع تبين هذه الأخطاء ودراستها، حتى نتجنبها في المحاولات اللاحقة التي تُطرح هذه الأيام، والمتمثلة بإعادة كتابة التاريخ.
وحين نفكر بإعادة كتابة هذا التاريخ ينبغي أن نوجه انتباهنا إلى بضعة أمور منها، أن التاريخ ليس مجرد أقاصيص تحكى، ولا هو مجرد تسجيل للوقائع والأحداث إنما هو تفسير لها، والاهتداء إلى الروابط الظاهرة والخفية التي تجمع بين شتاتها وتجعل منها وحدة متماسكة الحلقات، ممتدة مع الزمن والبيئة امتداد الكائن الحي في الزمان والمكان، كذلك التاريخ ليس كما يُخيل للبعض، مجرد حروب ومعاهدات أو سلالات حاكمة تسقط وأخرى تقوم، إنّه قبل هذا وبعده خبرة حضارية، ومشروع للتعامل مع الإنسان.
لذلك فإن القصد من إعادة كتابة التاريخ هو السعي لإعادة النظر في ماضي المجتمع وسبر أغواره، في مختلف مظاهره وتطوراته وملابساته، وعلاقات تلك المظاهر بعضها ببعض، بغية إدراك ذلك الماضي وتفهمه، لا كما نتوهم أنه كان أو كما يجب أن يكون، أو كما نأمل أن يكون، أو كما نقله المؤرخون، بل بغية السعي لتفهمه، أو التقرب منه، كما كان فعلا، قدر الإمكان.
أو بالأحرى، نقصد بذلك النظر إلى ماضينا بعيوننا نحن الأحياء، لا بعيون الأموات، على أن نحاول ذلك باستخدام أفضل المناهج البحثيّة والنقديّة الحديثة، للتعمّق في اكتناه أقصى أبعاد الماضي قدر الإمكان، بغية الوصول إلى أرجح الحقائق المتعلقة بالأحداث والأشياء والأشخاص البارزين والعاديين أو المهمّـشين، وظروفهم المعيشية والبيئية، الطبيعية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وعلاقاتهم بين بعضهم والبعض الآخر.
لقد آن الأوان لوضع نهاية لهذه الأوجاع التاريخية التي بدأت تنخر من جسد الحاضر، وتبشّر بانتشار الحروب والأزمات بين أبناء المجتمع الواحد، ناهيك عن الأزمات السياسية التي تحدث بين هذه الدولة وتلك، نتيجة للتفسير الخاطئ للحدث التاريخي، وتحميله أكثر مما يحتمل.
وهذا الأمر يتطلب جملة من الإجراءات وفي المقدمة منها، تنقية كتب التاريخ والتراث عموماً من النصوص المفخخة التي زرعت في بطونه وعلى صفحاته، ورفع الألغام الموضوعة على رفوف المكتبات، والتي تحولت هذه الأيام من تلك الرفوف الى شاشات التلفاز على يد ضيوف تستضيفهم بعض القنوات الفضائية جندوا من أجل توسيع هوة الانقسامات التاريخية بين المجتمعات والشعوب.
كذلك التأسيس لثقافة إنسانية مُغايرة، تقوم على احترام الإنسان بما هو إنسان بعيدا عن خلفيته الثقافية.
ويمكن أن يــُقر ذلك عبر مناهج تعليميّة تعتمد الخطاب الوسطي الذي يطرحه العلماء التنويريون، من خلال التركيز على المشتركات الإنسانية، والدينية، واحترام مقدسات بعضنا البعض، مع انتهاج خطاب موحد، يَجمع ولا يُفرق.
اضف تعليق