الفساد في مستوياته العليا بات جائحة حقيقية، أبطالها وحوش لا تشبع من المال الحرام ولا تقنع ببعضه، وهو هدف مقدس تسعى لتحقيقه بكل الأدوات حتى وإن أضرت بالمجتمع واقتصاده وأمنه وأرواح أبنائه، أمامنا أزمة الدولار مثال حيٌّ لاستخدام هذه المافيات قوت المواطن واستقراره، عبر التلاعب بسعر الصرف لتحقيق أرباح خيالية...
لم يعد الفساد مقتصراً على أفراد، بل بات فساد ضمير ونفوس، ترجمته العملية تتوقف على إمكانية وصول الفاسد إلى المال العام أو الخاص، بل وحتى التقصير في أداء الواجب كشكل من أشكال الفساد. ما يراه الجميع هو عمليات الفساد الكبيرة التي تتم من قبل سياسي أو مسؤول رفيع المستوى أو شركة تتخذ من فساد المسؤول غطاء لفسادها، والغش في نوعية الخدمة التي يفترض تقديمها.
الفساد في مستوياته العليا بات جائحة حقيقية، أبطالها وحوش لا تشبع من المال الحرام ولا تقنع ببعضه، وهو هدف مقدس تسعى لتحقيقه بكل الأدوات حتى وإن أضرت بالمجتمع واقتصاده وأمنه وأرواح أبنائه.
أمامنا أزمة الدولار مثال حيٌّ لاستخدام هذه المافيات قوت المواطن واستقراره، عبر التلاعب بسعر الصرف لتحقيق أرباح خيالية. إنه الفساد المتوحش الذي تورط فيه الكثير من السياسيين والمسؤولين بشكل أو آخر. ما هو ظاهر للسطح هو فساد بملايين الدولارات بل وصلت إلى المليارات؟ لكن هل المستويات الأخرى خالية من الفساد، وهل تخلو القطاعات الاخرى غير السياسية الرسمية من الفساد؟
كبار الفاسدين هم أبناء هذا المجتمع، وهم نتاج ثقافته وتاريخه، وهي ثقافة لم تختص بحفنة من الناس أصبحوا مسؤولين، إنما تشمل المجتمع ككل. مصادرها متنوعة، بين ظروف اقتصادية صعبة مرّ بها المجتمع عبر عقود، وحروب حمقاء قتلت مئات الآلاف جسدياً، وملايين العراقيين أخلاقيا ونفسياً، وتراجع دور الأسرة في التربية، ودور الدين في بناء رادع داخلي عند الانسان، من خلال محاصرة المؤسسة الدينية والصاق تهم الخيانة أو معارضة النظام حتى بالإنسان الملتزم دينياً، دون أن ننسى الموروث التاريخي لكثير من فئات المجتمع العراقي التي تدخل النهب في خانة المراجل.
وأيضاً المشكلة السياسية مع الأنظمة المستبدة، التي اعتبرت الحاكم وعشيرته مالكين للوطن، ما أفسح في المجال لرواج فكرة اباحة المال العام، بعيدا عن الأساس الديني المغلوط لهذه الفتاوى، الذي يستند اليه الكثيرون، ويقوم على أن الحكم غير شرعي لعدم خضوعه لمرجعية دينية، كل هذا أنتج ثقافة النهب التي كانت مقتصرة على رأس الحكم وعائلته وعشرته، ثم السماح بفساد محدود بحجة مساعدة الموظف والعامل في زمن الحصار.
لكن الطفرة الكبيرة كانت بعد 2003، وزوال العامل الردعي الرسمي وتوفر الأموال بمبالغ كبيرة، فصعدت محفزات الفساد في كل المستويات. من تطول يده لا يتورع عن أخذ المال العام، المسؤول الكبير يحصل على الملايين لتتطور إلى عشرات بل مئات الملايين، والادنى مستوى تطول يده أقل فلا يتورع، وهكذا حتى نصل إلى أدنى المستويات. المشكلة أن كل الناس يشكون من الفساد، بعضهم صادق والآخر منزعج لأن يده لا تطول المال. بات المعيار هو “إمكانية الأخذ” وليس حرمة، و”لا أخلاقية” مدّ اليد إلى المال العام والخاص.
عندما يرفع صاحب اليد النظيفة شعار مكافحة الفساد ويمتلك القدرة على محاربته، عندها سنكون أمام أمل بالنجاة من هذه الجائحة.
اضف تعليق