q
لم يعد هؤلاء الشباب ينظرون لأنفسهم بوصفهم أفرادا معدودين ومتفرقين، لا رابط بينهم ولا اتصال، ولم يعد في تقديرهم إخماد صوتهم، أو التكتم على قضاياهم، أو تجاهل مطالبهم، وذلك باعتبار أن الرؤية إلى الذات من جهة الشعور بالثقة والأمان والقوة، تختلف كليا وجذريا، حين يكون الإنسان فردا...

أصبح العالم اليوم أكثر تنبها لجيل الشباب، وأشد وعيا بدور هذا الجيل وحيويته وديناميته، ولأول مرة خلال القرن الأخير نشهد هذا المستوى الكمي والكيفي المتصاعد في الاهتمام بهذا الجيل، الجيل الذي بات حاضرا في التفكير العالمي على مستوى البرامج والسياسات والإستراتيجيات العالمية، وعلى الأصعدة كافة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية والتربوية والمعلوماتية والسكانية والصحية وغيرها.

ومن الواضح أن هذا التنبه العالمي لهذا الجيل، وهذا الاهتمام المتصاعد به، لم يأت من فراغ، أو من محض الصدفة، أو من دون سياق، وإنما جاء نتيجة حقائق موضوعية، حصلت على الأرض، وظهرت إلى الوجود، وانكشفت أمام الناس والعالم، وتحددت في أمرين رئيسين، هما:

الأمر الأول: له طبيعة كمية وعددية، وتحدد فيما كشفت عنه التقارير والدراسات الدولية الشاملة، التي أخذت تتحدث وباهتمام لافت عن زيادة عدد الشباب في العالم ممن تتراوح أعمارهم ما بين 14 و25 عاما، إذ يشكلون بحسب إحصاءات منظمة اليونسكو مليار ومائتي مليون، أي ما يعادل 18 في المائة من سكان العالم الذين يزيدون عن 6 بلايين نسمة، بينهم حوالي 84 في المائة من بلدان العالم الثالث، وهذه النسبة سترتفع عام 2025م إلى 89 في المائة، وهذا التعداد يمثل ولأول مرة على ما يبدو أكبر جيل من الشبان في تاريخ البشرية.

والمفارقة المثيرة للدهشة أن أعداد الشباب باتت تتناقص في البلدان ذات الدخل المرتفع، أو ما يعرف بالدول المتقدمة، بينما أخذت تتزايد أعداد هؤلاء بصورة كبيرة في الدول النامية، إذ يمثل الشباب والأطفال ما يزيد عن 50 في المائة من تعداد السكان، وهذه النسبة تشمل معظم الدول العربية، والكثير من الدول الإسلامية.

وباتت هذه الظاهرة لأهميتها وخطورتها تعتبر من مداخل تشكيل الرؤية إلى العالم، وتكوين المعرفة بطبيعة الاجتماع الإنساني، كما أنها تكشف من جانب آخر عن طبيعة التحول الديموغرافي في التركيبة السكانية للعالم، وعن ملامح هذه التركيبة وعناصرها، وتوازناتها المتغيرة والجديدة، والتي يتحدد على أساسها اتجاهات التنمية الإنسانية، ونظم الإدارة، واستشرافات المستقبل.

لذلك أقرت منظمة اليونسكو سنة 1996م أن الشباب يمثلون أولوية مطلقة في برامجها الثقافية، وفي سنة 1998م شكلت اليونسكو لجنة استشارية عالمية لرعاية الشباب والاهتمام بهم، والتواصل معهم.

وقد بدأت هذه الظاهرة تلفت بشدة أنظار العالم، وتحرض على الاهتمام بها، والتأمل فيها، والنظر في متطلباتها واحتياجاتها الأساسية والفعلية، وأخذت تخضع إلى العديد من الدراسات والأبحاث الوصفية والمسحية والتحليلية والاستشرافية، التي استعانت بعلماء وخبراء في مختلف ميادين العلوم الإنسانية والاجتماعية.

ومازالت هذه الظاهرة تستوقف الانتباه بصورة كبيرة، وذلك لشدّة حساسيتها، وتشابك تفاعلاتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وصعوبة السيطرة عليها، والحاجة إلى ضبطها وإدارتها بطريقة هادئة ورشيدة.

الأمر الثاني: له طبيعة نوعية وتأثيرية، وتحدد في تحول جيل الشباب إلى ظاهرة فاعلة ومؤثرة في الحياة العامة، وفي ما يعرف بالمجال العمومي، وبطريقة أثارة دهشة العالم برمته، فقد برهن هذا الجيل على قدرة فاعلة في التأثير على الحياة الاجتماعية والسياسية، نموذج ما حصل مؤخرا في العالم العربي، الذي مرت عليه موجة عنيفة من التغيير قلبت موازين الحياة السياسية والحياة العامة في بعض هذه الدول والمجتمعات.

وجاءت التقنيات الحديثة وخاصة شبكات التواصل الاجتماعي، بأقسامها وأنواعها، ولفتت الانتباه بصورة أكبر لجيل الشباب، وكيف أنه تحول إلى ظاهرة مؤثرة، وقادرة على تحريك التغيرات والتحولات الاجتماعية والسياسية، فمن جهة أظهر هؤلاء الشباب درجة عالية من الذكاء والمهارة في طرق التعامل مع هذه التقنيات الحديثة، وفي الاستفادة منها، وهم حاليا الشريحة الاجتماعية الأكبر، التي تتعاطى بمهارة مع هذه التقنيات وتتفاعل معها، بصورة يومية أو شبه يومية.

ومن جهة أخرى، وجد هؤلاء الشباب في هذه التقنيات الحديثة، أداة مهمة للتأثير، ولإثبات قدرتهم على التأثير، وأنهم أصبحوا يمتلكون هذه الأداة، ويحسنون الاستفادة منها في التعبير عن آرائهم ومواقفهم، وفي تأكيد واثبات وجودهم وحضورهم، وقد اعترف لهم العالم بهذا الدور، وبهذا التأثير.

ومن جهة ثالثة، تنبه هؤلاء الشباب إلى أنهم وبفضل هذه التقنيات الحديثة، باتوا يمثلون كتلة اجتماعية وبشرية وازنة من الناحية العددية، وعابرة بين المجتمعات والثقافات والديانات، بالشكل الذي ألهمهم الشعور بالثقة والأمان، والإحساس بالقدرة والتضامن، وخلصهم من هواجس الرهبة والخوف.

فلم يعد هؤلاء الشباب ينظرون لأنفسهم بوصفهم أفرادا معدودين ومتفرقين، لا رابط بينهم ولا اتصال، ولم يعد في تقديرهم إخماد صوتهم، أو التكتم على قضاياهم، أو تجاهل مطالبهم، وذلك باعتبار أن الرؤية إلى الذات من جهة الشعور بالثقة والأمان والقوة، تختلف كليا وجذريا، حين يكون الإنسان فردا لا كتلة بشرية تتضامن معه، وحين يكون فردا ضمن كتلة بشرية تتضامن معه.

بفضل هذين العاملين المؤثرين، تنبه العالم لجيل الشباب، ودوره وتأثيره، وضرورة الانفتاح عليه، والتواصل معه، والإصغاء والإنصات له.

* الأستاذ زكي الميلاد، باحث في الفكر الإسلامي والإسلاميات المعاصرة-رئيس تحرير مجلة الكلمة
http://www.almilad.org

اضف تعليق