وتشغل منظومة المخاوف تلك الخطط الإعلامية الأميركية وبكافة وسائلها وصولا الى إنتاجات هوليود السينمائية التي يتشكل من خلالها الرأي العام والمزاج الأميركي أو على الأقل هذا ما تسعى له الدوائر الإمبريالية الأميركية، وكذلك تهيمن تلك المخاوف أو الذرائع المبتكرة فيها غالبا على التخطيط السياسي الأميركي، وهو ما يدع...
فكرة التصنيف للمجتمعات البشرية وعلى أسس عنصرية واقتصادية تمتد تاريخيا وفكريا الى جذور الفكرة التي تأسست وفقها الدولة، وطبيعة الدولة في وظيفتها التشريعية الأولى هي تقسيم المجتمع المحلي الى فئات اجتماعية وطبقات اقتصادية وتحت تسميات قانونية، وكان الجانب الوظيفي التشريعي في العالم القديم–الآسيوي يستوعب تلك التصنيفات العرقية والاقتصادية ضمن نطاق التصورات والرؤى الدينية–الوثنية، ولم تكن مخلة من وجهة نظر هذا العالم الأسيوي القديم بمبدأ العدالة.
لكن مع ظهور الإغريق وتشكل أوليات أوربا او الغرب تطورت هذه التصنيفات الى تأسيسات فلسفية وأيديولوجية، تشكلت ملامحها ومضامينها مع التنظير والتأطير الفلسفي الذي مارسه فلاسفة الإغريق في التصنيف للمجتمعات المحلية وعبورا الى المجتمعات الخارجية، وهنا نشهد بداية التأسيس للفصل الحاد بين المجتمعات البشرية، وأضيفت التصنيفات الاجتماعية والثقافية بواسطة الفكر الإغريقي الفلسفي والروماني السياسي والقانوني، وقد أنتجت تلك التصنيفات الأخيرة وفي تطورات تاريخية خطيرة مفهوم الآخر منظورا إليه وفق إنتماءات الهويات التي تتشكل اجتماعيا وثقافيا كمحددات لتعريف الآخر، وفي تلك الفجوة التاريخية والمغامرة الإغريقية الثقافية نشأ مفهوم الشرق والغرب، ولم يكن بالمرة أسيويا في نشأته.
فقد ابتكر الإغريق اسم ومن ثم مصطلح "البرابرة" في توصيف الشعوب غير اليونانية وتم توظيفه إغريقيا بعد الحروب الشهيرة بين الإغريق والفرس تجاه الشرق الأسيوي وتداولته الذاكرة الأوربية في كل أدوراها التاريخية، وبتوظيف عنصري–عرقي واجتماعي–ثقافي قسمت العالم والمجتمعات البشرية الى الشرق والغرب.
وظل مصطلح البرابرة ينوء بحمولته الثقافية والتاريخية تحت وطأة التقسيم أو الفصل الذي مارسته أوربا قديما وحديثا تجاه العالم والمجتمعات البشرية، حتى جاءت مقولة الشاعر الإنكليزي "روديار كبلنغ 1865- 1930" والمولود في الشرق – الهند (الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا)، لكن اللقاء حدث وبمضمون آخر غير التواصل الحضاري والثقافي الذي مارسته بلا شك أوربا في عصورها الوسيطة وعصور النهضة، وأما المضمون في هذا اللقاء الذي حدث في ذروة عصر الحداثة فكان الاستعمار العسكري والسياسي الأوربي الذي احتل آسيا وأفريقيا على مدى القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين وكان لقاءا دمويا واستيطانيا ترك ندوبه المؤلمة في ذاكرة الشرق، وأخيرا اكتسب هذا اللقاء صيغة الهيمنة القصوى في عصر ما بعد الحداثة مع الإرادة الغربية التي استقطبتها الولايات المتحدة الأميركية.
لقد حافظت أوربا في لقاءها ومواجهتها مع الشرق الإسلامي على هذا الفصل الحاد بين الشرق والغرب ولم تتعمد تجاوزه بسياسات الفرض في منحنيات الدين والثقافة والتقاليد وسلب الهويات باستثناء السياسات الفرنسية في الجزائر ومن قبلها الإيطالية في ليبيا وقد باءت كلها أخيرا بالفشل.
ولكن وفي حمى الإيمان الأميركي–الأيديولوجي بالليبرالية ومباديء حقوق الإنسان والسوق الحرة او كما تعرف أحيانا في الخطاب الأميركي الرسمي بالقيم الأميركية، سعت الولايات المتحدة الأميركية الى تجاوز كل ذلك التقسيم التقليدي والفصل الأيديولوجي-الثقافي والاجتماعي بين الشرق والغرب، وشرعت في تطبيقات نموذجها الليبرالي الاقتصادي أو الديمقراطي السياسي في العالم بعد انفرادها بالقطبية الأحادية بل وحاولت صياغة العالم وبشكل كلي وفق صياغاتها الليبرالية وقيمها الخاصة وفق ادعائها باعتبارها حلولا كاملة ومستنبطة من أقوى وأهم التجارب السياسية الديمقراطية والاقتصادية الليبرالية.
ونتيجة اليقينية المطلقة بالقيم الليبرالية الأميركية تزعمت أميركا وبالقوة حملة غرس النظم الليبرالية والديمقراطية السياسية في العالم وعبور منحنيات الدين والثقافة والهويات الوطنية، فكانت الحرب والحصار وسائلها في فرض تطبيقات نموذجها الكوني وغير النسبي في الديمقراطية ومباديء حقوق الإنسان، وهو ما لم تصنعه أوربا في لقاءها التاريخي الاستعماري مع الشرق الأسيوي والأفريقي في الأمس القريب.
وقد اختصرت أميركا هذا العالم المزعوم صياغته قيميا-اميركيا بالشرق وأهملت مناطق العالم الأخرى في أفريقيا وأميركا الجنوبية، وأهملت الحلول في تلك البلدان التي تعاني الأسوء والأخطر من مشاكل وأزمات الشرق، مما يوحي بانتماء التصورات والرؤى الأميركية - الإمبريالية الى تلك السياقات التقليدية والأيديولوجية الغربية في النظر الى الشرق باعتباره يشكل الحد الفاصل مع أوربا والغرب، والمنافس البربري الذي يستبطن الخطر البربري الوشيك على أوربا والغرب، وقد نجد في الهواجس والتحذيرات الأميركية المستمرة تجاه روسيا والصين ما يؤشر ذلك.
فأميركا التي أدمنت في أيديولوجيتها الداخلية فكرة وجود العدو لها، وانها استهداف دائم لقوى الشر وقد عبر عنها ترامب في مقولته الشهيرة "انهم يكرهوننا"، تكون قد وجدت في تلك العقيدة التقليدية "الشرق والغرب" ما يحقق ربحا سياسيا داخليا مهما على صعيد التكثيف الاجتماعي والترويج الإعلامي لفكرة الامة الأميركية التي يحميها ويباركها الرب، تلك الأمة التي تنتمي الى الغرب بمبادئها وثقافتها وفكرها الديمقراطي وتفكيرها الليبرالي، وبهذا فهي تكون على حافة المواجهة الدائمة مع الشرق الذي لا ينسجم مع تلك التصورات الأحادية والخاصة بالغرب، ويعادي تلك الثقافة الليبرالية والحياة الديمقراطية في العالم الحر الذي أدمنت اميركا على وصف دولتها وحكومتها بهذا الوصف.
ان البداهة التقليدية في التعامل مع الشرق باعتباره ناقضا لمباديء الليبرالية ونافيا لحقوق الإنسان ومذلا لكينونة النساء ومحبطا لآمال الخصوصيات الفردية وصيغتها الأخيرة وفق التصورات الأميركية في معاناة المثليين والمتحولين جنسيا، إنما هي ادوات التجييش الأميركي السياسي والإعلامي ضد الشرق ونظمه السياسية وعقائده الدينية وثقافته الاجتماعية، وهو توظيف سيء النوايا والنتائج لعقيدة الفصل الحاد والأيديولوجي وفي مغارسها الإغريقية بين الشرق والغرب، وهو ما فرض ضرورة اللقاء – المواجهة مع الشرق واحتواء تحديات الشرق، ولا بأس بالتنويه بأن كلمة "احتواء" أميركية المنشأ إعلاميا وسياسيا، وتحمل دلالات الفعل السياسي والعسكري الأميركي المتوقع تجاه هذه التحديات التي تنشأ عن الخصومات البديهية والتقليدية التي تنتاب عالم الشرق، لا سيما الإسلامي والصيني والروسي تجاه المباديء والقيم الأميركية وفق الترويج المتعمد لها إعلاميا وسياسا أميركيا في الداخل الأميركي من أجل الحشد الشعبوي واليميني المتطرف في أميركا.
لقد كانت الحرب إحدى وسائل هذا اللقاء – المواجهة وتسويغ هذه الحرب جاء منظورا إليها وفق تصورات السلام الأميركي بأنها ضرورة لابد منها، وأن أميركا تخشى أسلحة الدمار الشامل في العراق وفي ايران وتخشى على حلفائها في المنطقة من أذرع ايران في المنطقة وتخشى السياسات الدكتاتورية والنووية الكورية على العالم، وتخشى التمدد الاقتصادي الصيني وما يحمله من توقعات بتهديد نظام السوق الحرة ومستقبل اميركا الاقتصادي، وتخشى النهوض الروسي السياسي والاقتصادي والذي يهدد بإعادة العالم الى النظام القطبي الثنائي أو المتعدد الأقطاب مما يهدد وبشكل جازم الهيمنة الأميركية الدولية.
وتشغل منظومة المخاوف تلك الخطط الإعلامية الأميركية وبكافة وسائلها وصولا الى إنتاجات هوليود السينمائية التي يتشكل من خلالها الرأي العام والمزاج الأميركي أو على الأقل هذا ما تسعى له الدوائر الإمبريالية الأميركية، وكذلك تهيمن تلك المخاوف أو الذرائع المبتكرة فيها غالبا على التخطيط السياسي الأميركي، وهو ما يدع أميركا دولة ومجتمعا وحكومة وشعبا في حالة استنفار دائم وجلبة إعلامية تضع اميركا على حافة الخطر المزعوم أو القلق – الوهم، وتعبث بشكل دائم بالعقل الأميركي الذي يبدو انه أدمن وبتأثير الإعلام الداخلي لعبة السلاح والقتل واستهوت مغامراته العقل المراهق في الداخل الأميركي من خلال مشاهد اطلاق النار المتكررة في أوساط المراهقين، والذي يبدو انه يتسبب في جزء مهم منه عن هذا الاستنفار والتجييش السياسي والإعلامي والخطاب التحريضي الذي تمارسه الدولة الأميركية والثقافة السياسية الأميركية في إدامة هواجس الخوف المزعوم أو القلق-الوهم من الشرق.
اضف تعليق