في عراقنا، ما زال الاقتصاد بلا هوية، والاستثمار مجرد كذبة توقف عن تصديقها المستثمرون. السبب واضح وهو عدم توفر السلطة القوية القادرة على حماية الاستثمار من الفساد والابتزاز من الموظفين والمسؤولين، وصولا إلى القوى السياسية والعشائر أولا، وعلى مراقبة أداء القطاع الخاص واجباره على تقديم أفضل الخدمات ثانياً...
كثير من يبحثون في تراجع التعليم الحكومي في العراق يتحدثون عن التعليم الأهلي كحل لهذه المعضلة. ينطلق هؤلاء من حقيقة أن القطاع الخاص في الدول ذات الاقتصاد الحر، هو الذي يبني، وهو الذي ينجز، لأنه مرتبط بمصالح أصحاب المشاريع، والأخيرة مرتبطة بسمعة الجهة القائمة على المشاريع، وبالتالي باستمرارها في جذب المستفيدين أو المستهلكين للسلع والخدمات، وبينها التعليم في جميع مراحله.
لكن الواقع العراقي يكشف عن عجز حتى القطاع الخاص عن الإنجاز. كيف؟ نظرياً، يملك هذا الرأي الكثير من الصحة، خصوصا وأن تطبيقه في دول عديدة جاء بنتائج إيجابية، لكن ما هي طبيعة تلك الأنظمة التي تدير تلك الدول؟، وما هي قوة السلطات وقدرتها على تنفيذ القوانين ومراقبة أداء القطاع الخاص؟، وكيف تتعامل الدوائر الرسمية المعنية مع المستثمرين الذي لا يقدمون السلع والخدمات بالجودة المطلوبة والمحددة من قبل سلطات مختصة، بوضع المقاييس والمواصفات لكل السلع والخدمات المقدمة من قبل شركات القطاع الخاص أو المستوردة.
عندما يقال “اقتصاد حر” فلا يعني ذلك أنه بعيد عن التحكم الرقابي، بل يعمل هذا القطاع وفق مواصفات محددة، وبعقود تتضمن تفصيلات وشروطا، ومعها بنود جزائية في حال التخلف وسوء الأداء. في كثير من الدول هناك مكاتب مختصة بتلقي الشكاوى من سوء خدمة او سلعة، ويتم التحقيق السريع فيها، وفي حال ثبوتها تتعرض الشركة المقدمة لعقوبات قاسية، وتفرض عليها غرامات مالية موجعة تجعل المنتج ومقدم الخدمة يفكر ألف مرة، قبل أن يتهاون في جودة منتجاته. وفي ظل هكذا وضع، يصبح القطاع الخاص فاعلا، يتنافس المستثمرون، وتتوفر فرص العمل للناس، ويحصل المستهلكون على خدمات جيدة وبأسعار معقولة.
وفي ظل هكذا اقتصاد وهكذا تنظيم فإن دولًا كإمارة دبي مثلا، وصلت الى كل هذا الأعمال والتطور، من خلال القطاع الخاص فقط. لم تنفق الحكومة شيئا، بل تركته للقطاع الخاص، تشييدا وتشغيلاً، واكتفت هي باستحصال الضرائب وتنظيم الأداء ومراقبته.
في عراقنا، ما زال الاقتصاد بلا هوية، والاستثمار مجرد كذبة توقف عن تصديقها المستثمرون. السبب واضح وهو عدم توفر السلطة القوية القادرة على حماية الاستثمار من الفساد والابتزاز من الموظفين والمسؤولين، وصولا إلى القوى السياسية والعشائر أولا، وعلى مراقبة أداء القطاع الخاص واجباره على تقديم أفضل الخدمات ثانياً.
النتيجة هي أن صاحب المشروع، التعليمي أو الاقتصادي يدفع الرشاوى والخاوات الى السياسيين والمسؤولين المعنيين، فينجو من أية مراقبة، ويقدم الخدمة والسلعة السيئة من دون رادع. في غياب سلطة تشريعية قادرة على سن القوانين، وحكومة قادرة على تطبيق هذه القوانين، وبتفشي الفساد داخل الحكومة وخارجها، لن يقوم قطاع تعليمي واقتصادي خاص، فضلاً عن غياب إمكانية تطور القطاع العام المنخور بالبيروقراطية والفساد والترهل. لنا أن نتصور كيف سيكون مستقبلنا.
اضف تعليق