المحاولات الكثيرة من قبل المسؤولين المحليين في البصرة كانت مرارا وتكرارا وسيلة للهروب من الفشل في تقديم الخدمات للمواطنين رغم الامكانيات المالية والموازنات الكبيرة، لذلك كانت الاستجابة لهذه المطالب على المستوى الحكومي الاتحادي بصورتين هما (الرفض والمماطلة والتفاهمات السياسية) او من خلال (المنح المالية) بموازنات إضافية...
عندما تتولد الازمات وتفشل الحكومات الاتحادية والمحلية في ادارتها تتزايد الاحتجاجات الشعبية بصور مختلفة منها التظاهر والاعتصام واحيانا اخرى تصل الى المظاهر المسلحة والتهديد، مما يولد ردود معاكسة من قبل الجانبين، في العراق ومنذ العام 2003م وغداة التحول من الشكل الموحد الى الفيدرالي ومع النص الدستوري والقانوني على وجود حكومات محلية في المحافظات غير المنتظمة بإقليم لإدارة تلك المحافظات وتسير شؤون مواطنيها وفق اسلوب اللامركزية الإدارية.
الا ان تلك الحكومات فشلت في عدة مرات في تقديم تلك الخدمات رغم الصلاحيات المالية والادارية الواسعة مما ولد احتجاجات شعبية كثيرة في عدة مرات مطالبة بتقديم الخدمات في اول مرة لكنها زادت لتطالب بحل تلك المجالس بعد اليأس من المواطنين والعجز التام من تلك المجالس مما جعل الحكومة الاتحادية تأخذ زمام الامور بالمساعدة لتلك الحكومات، اذ تمثل الرد الحكومي الاتحادي تجاه المحافظات التي شهدت ازمات متعددة ومكررة اغلبها تتعلق بالخدمات الاساسية البسيطة في بعث جيوش من العاصمة بغداد من اجل اخماد تلك الاحتجاجات او تأمينها كما الحال في محافظة الانبار او البصرة على سبيل المثال.
اما الرد المحلي من قبل تلك المجالس التي فشلت هي الاخرى في توفير ابسط الخدمات في المحافظات معززة ذلك لمجموعة اسباب يأتي في مقدمتها قلة التمويل المحلي وسلب حقوقها وعدم المساواة في توزيع الموازنة الاتحادية على حسب نسبة السكان، اضافة الى سياسات اتحادية اخرى مارستها بعض الحكومات وصفت بانها وقفت حاجزا امام مجالس المحافظات في تحقيق اهدافها، اضافة الى آفة الفساد والعوامل المتعلقة بمجالس المحافظات ذاتها، ليتمثل ردها في انشاء الاقاليم والمطالبة بذلك بين الحين والاخر كملجأ للهروب من فشلها الدائم.
اذ تعد فكرة انشاء الاقاليم في العراق بعد عام 2003م ومع التغير السياسي في النظام وشكل الدولة العراقية الاتحادي وبروز اقليم كردستان العراق كإقليم وحيد اضافة الى مكونات الدولة الاتحادية الاخرى المتمثلة في العاصمة بغداد والمحافظات غير المنتظمة بإقليم والادارات المحلية حسب نص المادة (116) من دستور العراق لعام 2005م النافذ، ورجوعا لنصوص الدستور العراقي ذاته وتحديدا نصوص المواد (117الى 221) نجد نصوصا صريحة تتبنى انشاء الاقاليم وليس اقليما واحدا، فما بين النص على وجود اقاليم وليس اقليما واحدا وما بين الاجراءات التي يجب اتباعها في طلب تشكيل الاقليم المتمثلة في طلب من ثلث الاعضاء في كل مجلس من المجالس التي تروم تكوين الاقليم، او طلب عشر الناخبين في كل محافظة من المحافظات التي تروم تكوين الاقليم.
فبعد النص دستوريا على ان يسن مجلس النواب العراقي قانون يحدد الاجراءات التنفيذية لتكوين الاقاليم، تم ذلك بالفعل من صدور قانون رقم 13لسنة 2008م المنشور بجريدة الوقائع العراقية ذي العدد (4060) بتاريخ 11شباط 2008م والذي تكون من (22) مادة، حيث نصت المادة الاولى على ان الاقليم يتكون من محافظة او اكثر، اما المادة الثانية في طرق تكوين الاقليم والتي نصت مثلما هو نص المادة الدستورية (119) بطريقتين من قبل ثلث اعضاء كل مجلس يروم تكوين الاقليم او طلب من عشر الناخبين في كل محافظة ترون تكوين الاقليم، اما في حال انضمام احدى المحافظات الى اقليم يقدم الطلب الى ثلث الاعضاء في مجلس المحافظة مشفوعا بموافقة ثلث اعضاء المجلس التشريعي للأقاليم.
اما من حيث الاجراءات التي يجب اتباعها في حال الرغبة في تكوين الاقليم فقد اشارت المادة الثالثة من القانون اعلاه بخطوتين تتمثل في تقديم طلب الى مجلس الوزراء موقعها من رؤساء او الممثلين القانونين لمجالس المحافظات او المجالس التشريعية للأقاليم حسب الاحوال خلال مدة لا تتجاوز الاسبوع، يكلف مجلس الوزراء المفوضية العليا للانتخابات خلال مدة لا تتجاوز 15يوما من تقديم الطلب باتخاذ اجراءات الاستفتاء ضمن الاقليم المراد تكوينه خلال مدة لا تتجاوز الثلاث شهور.
الا ان القانون فرق بين الطلب الذي يقدمه ثلثي اعضاء مجلس المحافظة المراد تكوين الاقليم فيها عن الطلب الذي يتقدم به عشر الناخبين في تلك المحافظة الراغبة في تكوين الاقليم، فقد اشارت المادة الرابعة من القانون اعلاه في بندها الاول : ان الرغبات اذا قدمت وفقا للمادة(2ثانيا) أي من قبل عشر الناخبين يقدم الطلب ابتداءا من (2%) من الناخبين في مكتب المفوضية العليا للانتخابات في المحافظة يتضمن شكل الاقليم المراد تكوينه وعلى المفوضية الاعلان عن ذلك خلال ثلاث ايام من تقديم الطلب بالصحف ووسائل الاعلام وان تحدد مدة لا تقل عن شهر للمواطنين الذي تتوفر فيهم شروط الناخبين في ابداء رغباتهم الداعمة للطلب ضمن سجل معد لذلك من اجل حساب تحقق النصاب المطلوب.
اما اذا تعددت الرغبات في الطلبات المقدمة بشأن تكوين الاقليم أي قدم من قبل الاثنين عشر الناخبين وثلثي اعضاء مجلس المحافظة هناك اجراءات مختلفة عن السابقة تتمثل في:
1- اذا كانت احدى الرغبات مقدمة وفق المادة (2اولا) يعني من قبل ثلثي اعضاء مجلس المحافظة وتجاوز الطلب موافقة الثلث من الاعضاء في مجالس المحافظات تتبع الاجراءات في المادة (3) من هذا القانون.
2- يضع مكتب المفوضية العليا للانتخابات في المحافظة استبيانا يحدد فيه شكل الاقاليم المطلوبة ومن ثم يعرض على الناخبين لاختيار أي منها في مدة لا تتجاوز الشهرين من تقديم الطلبات ويعتبر شكل الاقليم الذي يقدم للاستفتاء عليه من يحصل على اكثر اصوات الناخبين المشاركين في الاستبيان.
اما من حيث اجراءات الاستفتاء بعد استيفاء الطلب المقدم باختلاف الطريقة، تقوم المفوضية العليا للانتخابات عن طريق مكاتبها في المحافظات والاقاليم باتخاذ اجراءات الاستفتاء والانتهاء منها خلال المدة المحددة بخمسة عشر يوما من تاريخ تكليفها من قبل مجلس الوزراء، وللمفوضية تأجيل ذلك لمدة شهر ولمرة واحدة فقد مع علم مجلس الوزراء بذلك.
يلزم حصول الاستفتاء على اغلبية المصوتين من الناخبين في كل محافظة من المحافظات تروم الانضمام للإقليم وتعلن النتائج خلال (15) يوم من اجراءه، على ان لا تقل نسبة المشاركين عن (50%) من الناخبين. كذلك يجوز الطعن لكل ذي مصلحة في نتيجة الاستفتاء خلال اسبوع من تاريخ اعلانها على ان يتم الفصل في تلك الطعون من قبل الجهات المختصة بفترة لا تتجاوز العشرة ايام، ليتم بعدها المصادقة على النتائج النهائية من الجهة المختصة وترفع الى رئيس الوزراء خلال الثلاث الايام التالية لذلك.
على المجالس المشكلة للإقليم سواء كانت مجلس محافظة أم مجلساً تشريعيا ً أن تجتمع بـعد (7) أيام من قرار تشكيل الإقليم لتقوم بالتحضير والإعداد لانتخاب مجلس تشريعي انتقالي، مع استمرارية مجالس المحافظات والأقاليم المشكلة للإقليم بعملها لحين نفاذ دستور الإقليم الدائم، اما من حيث الانتخابات فقد نص القانون على ان تجري انتخابات المجلس التشريعي الانتقالي للإقليم والذي يتكون من عدد من الأعضاء، يمثلون سكان الإقليم بأكمله وتتوافر بهم الشروط الواردة في قانون الانتخابات الاتحادي، يتم انتخابهم بطريقة الاقتراع السري العام المباشر وفقاً للنسب التالية :
أ- مقعد واحد لكل خمسين ألف نسمة من نفوس الإقليم المشكل من محافظة واحدة على أن لا يقل عن (خمسة وعشرين) عضواً.
ب – مقعد واحد لكل خمسة وسبعين ألف نسمة من نفوس الإقليم المشكَل من اكثر من محافظة أو إقليم، على ان تتولى المفوضية العليا للانتخابات الإعداد والإشراف على الانتخابات التشريعية للإقليم، مع استمرارية عمل المجلس التشريعي الانتقالي للإقليم لحين انتخاب المجلس التشريعي الدائم للإقليم، وكما هو معروف من حيث تنظيم السلطات في الاقليم يترك لدستور الإقليم حيث اشار القانون الى ان ينظم دستور الاقليم سلطاته التشريعية والتنفيذية والقضائية، اما من حيث انعقاد المجلس فقد يعقد المجلس التشريعي الانتقالي للإقليم جلسته الأولى بناءا على دعوة اكبر أعضاءه سناً بعد المصادقة على النتائج النهائية للانتخابات، ويؤدي عضو المجلس التشريعي اليمين أمام المجلس قبل مباشرته للعمل بالصيغة الواردة في المادة (50) من الدستور الاتحادي، وكما هو الحال في الانتخابات البرلمانية التشريعية بترأس الاكبر سنا الجلسة الاولى فإن الحال ذاته في الاقليم، حيث اشار القانون الى ترأس الجلسة الأولى أكبر الأعضاء سناً، حيث ينتخب المجلس التشريعي الانتقالي في جلسته الأولى من بين أعضاءه رئيساً ونائبين للرئيس بالاقتراع السري المباشر.
ويضع المجلس التشريعي الانتقالي نظاماً داخلياً له خلال شهر من انعقاد أول جلسة، ومن ثم يُشكِل المجلس التشريعي الانتقالي للإقليم خلال مدة أقصاها ثلاثون يوماً من تاريخ أول جلسة له لجنة مؤقتة من بين أعضائه لأعداد مسودة الدستور الدائم للإقليم، وعلى اللجنة الانتهاء من كتابة مسودة الدستور الدائم خلال مدة أقصاها أربعة أشهر من تأريخ تشكيلها وتعرض على المجلس التشريعي للإقليم لمناقشتها والموافقة عليها بالأغلبية المطلقة، على أن لا يتعارض مع الدستور الاتحادي، ومن ثم تُعرض مسودة الدستور للاستفتاء بعد موافقة المجلس التشريعي الانتقالي للإقليم عليه ويكون الاستفتاء ناجحاً بموافقة أغلبية المصوتين من الناخبين، وكما هو الحال في استقلالية السلطة القضائية الاتحادية الامر ذاته في الاقليم، حيث اشار القانون الى ان السلطة القضائية للإقليم مستقلة وتتولاها المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها وفقاً لأحكام الدستور الاتحادي ودستور الإقليم والقوانين الاتحادية ذات الصلة.
اما اختيار رئيس المجلس التشريعي للإقليم ونائبيه، وفق أحكام المواد الواردة في هذا القانون، واشار القانون اعلاه في فصل الاحكام الختامية (تبقى القوانين الاتحادية نافذة والقوانين ذات الصلة بصلاحيات المحافظات نافذة ما لم تصدر قوانين تلغيها أو تعدلها وفقاً لأحكام دستور الإقليم وبما لا يتعارض مع الدستور الاتحادي).
اما من حيث تاريخ البدايات في المطالبة بتكوين اقليم البصرة، فتاريخيا لم تكن المرة الاول التي يقدم عليها اهل البصرة سواء من قبل مجلسها او الاهالي هناك من المطالبة بتكوين الاقليم، اذ يعد وائل عبد اللطيف (محافظ البصرة انذاك) أول من حاول جعل البصرة إقليماً بعد عام 2003م، حيث تمكن أواخر عام 2008م من الحصول على تواقيع (2%) من الناخبين، وقدم طلباً رسمياً إلى المفوضية العليا المستقلة للانتخابات لإجراء استفتاء على تشكيل إقليم البصرة، لكن محاولته لم تتكلل بالنجاح بسبب تعذر الحصول على نسبة (10%) من أصوات الناخبين، وهي المرحلة التي تمهد في حال نجاحها لإجراء استفتاء جماهيري عام.
ففي عام 2010م، وقع غالبية أعضاء مجلس المحافظة على طلب يدعون فيه إلى تحويل البصرة إلى إقليم، وأرسلوا الطلب إلى مجلس رئاسة الوزراء لإصدار أوامره إلى المفوضية من أجل الإعلان عن مدة معينة يتم خلالها الترويج للمشروع من قبل القوى السياسية الداعمة له، وبعدها يتم تحديد موعد لإجراء استفتاء جماهيري في البصرة، لكن مجلس رئاسة الوزراء لم يرد رسمياً على ذلك الطلب، فيما تحرك مجلس المحافظة أواخر العام الماضي 2013م مرة ثانية لتأسيس اقليم البصرة، ولوح بمقاضاة مجلس الوزراء في حال تجاهله أو رفضه طلب تأسيس الاقليم الذي وقع عليه (12) من أصل (35) عضواً، لكن الطلب تم تجميده أو سحبه ضمن إطار تفاهمات سياسية.
عادت المطالب مرة اخرى في عام 2014م من قبل وائل عبد اللطيف ومحمد الطائي، بتكوين اقليم البصرة، اذ صرح وائل عبد اللطيف في عام 2014م أن "مسودة دستور الاقليم سوف يشترك في صياغتها متخصصون من أبناء البصرة في مجالات القانون والإدارة والسياسة والاقتصاد واللغة العربية، فضلاً عن ممثل من مجلس شورى الدولة"، معتبراً أن "طموحي ينصب على المساهمة في صياغة دستور الاقليم بعد أن ساهمت في صياغة الدستور الاتحادي عام 2005م، وقانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية (2003م-2004م)، وقانون الاجراءات التنفيذية لتكوين الأقاليم عام 2008م".
عادات المطالبات مرة اخرى مع ذروة الاحتجاجات الشعبية في العام 2018م اذ قام مجلس المحافظة بتقديم طلباً لتحويل محافظة البصرة إلى إقليم، وبعد مضي عام، قرر مجلس ذاته في جلسة استثنائية تحويل المحافظة إلى إقليم، على أمل ان يُجرى الاستفتاء أواخر العام نفسه، وذلك لتجاوز حالة الإحباط واليأس التي خلفتها موجة الاحتجاجات في البصرة وفشل تحقيق مطالب المتظاهرين الذين تعرضوا للقمع، وفُسر قرار مجلس المحافظة بصدد اقامة الإقليم كأجراء لتهدئة من الغضب الجماهيري وللتعبير عن سخط المسؤولين المحليين على الحكومة الاتحادية ولكسب ثقة السكان عبر إعلانه عن موقف أكثر حزماً بشأن اعلان الإقليم، كما وعد بـ”سجن المسؤولين في بغداد، لو استمروا بتجاهل مطلب إقامة إقليم في الجنوب“.
نرى ان المحاولات الكثيرة من قبل المسؤولين المحليين في البصرة كانت مرارا وتكرارا وسيلة للهروب من الفشل في تقديم الخدمات للمواطنين رغم الامكانيات المالية والموازنات الكبيرة، لذلك كانت الاستجابة لهذه المطالب على المستوى الحكومي الاتحادي بصورتين هما (الرفض والمماطلة والتفاهمات السياسية) او من خلال (المنح المالية) بموازنات اضافية كما فعل رئيس الوزراء السابق (عادل عبد المهدي) في العام 2019م من اجل نسيان الفكرة الاقليمية والتخلي عنها نهائيا، اما على المستوى الشعبي فكانت بين التأييد تارة والرفض تارة اخرى اذ يرى الطرف المؤيد لفكرة الاقليم انها تسمح للبصرة بالحصول على حقوقها وخاصة الاقتصادية والخدمية بينما يرى الطرف الرافض ان وضع البصرة يتطلب المزيد من الصلاحيات الادارية والمالية من اجل تقديم الخدمات.
مما تقدم يتضح ان المحاولات المطالبة بالإقليم للبصرة وان اختفت خلال هذه السنتين الماضية لعدة اسباب يأتي في مقدمتها حل مجالس المحافظات من قبل البرلمان وتخويل المحافظين بإدارة الشؤون اليومية في المحافظة وان كان ذلك نصا قانونيا حسب قانون المحافظات غير المنتظمة بإقليم رقم 21لسنة 2008م المعدل، لكنها ستعود ايضا في حال عودة تلك المجالس او ظهور احتجاجات شعبية مرة اخرى نتيجة التقصير المستمر من قبل الحكومة المحلية، الامر الذي يتطلب ايجاد حلا جذريا لهذه الاشكالية اما الاستجابة لهذه المطالب وفق القانون او الغاء القانون الخاص بالإجراءات التنفيذية الخاص بتكوين الاقاليم رقم 13لسنة 2008م.
اضف تعليق