د. هيثم الحلي الحسيني
برغم اختلاف الاجتهادات، في تحديد مكونات المجتمع المدني، من منظمات غير حكومية، ومسمّياتها من روابط وجمعيات ومؤسسات وهيئات واتحادات، وطبيعة أنشطتها وتأثيرها العام، وعدم التوافق على تعريف موحّد لها، غير أن التعريف المعتمد في أدبيات منظمات المجتمع المدني، عالميا وأكاديميا، يصنّفها بكونها الهيئات التي نشغل الفضاء بين الأسرة والدولة، التي تنشط في الخدمة المجتمعية العامة، باستقلالية وتطوعية ودون ربحية.
وقد يُشكل بعض المفكرين والمهتمين في البحث في الموضوع، على هذا التحديد والحصر، لدواع متبنيات الفكر والعقيدة، وخاصة الفكر الإسلامي المجتمعي، في الدعوة الى التوسّع في تضمين منظومة المجتمع المدني، للمكوّنات الأسرية أو العائلية صعودا، التي تنتظم لتنشيط أدوارها المجتمعية، وفعالياتها الخيرية والداعمة، لمنتسبيها أو لعموم المجتمع، إذ يجري إدراج هذه "المنظمات"، ضمن الفضاء الأقرب لوظيفتها ومهامها، بغرض الإنسجام بين الإتجاهين، في التضييق أو التوسع، كما تقارب بعض مؤسسات الدولة، ذات الصفة الخدمية المجتمعية، ضمن ذات الإطار، في نطاق التصنيف الأوسع.
وبذلك يسكت متبنو الفكر المجتمعي الإسلامي، عن مضمون التعريف التقليدي، في تحديد مكونات المجتمع المدني، ضمن الفضاء بين العائلة والدولة، فيجري تضمين الأسرة والوحدات العائلية الأوسع منها، ضمن مكونات المجتمع المدني، باعتبار أن العائلة في الواقع تكوّن البنية التحتية لكافة المؤسسات الأخرى، التي تبتنى عليها، كونها وحدة بناء المجتمع.
وكذا يدخل هذا الفكر، مؤسسات الدولة، ذات الطبيعة المجتمعية والخدمية، أو مؤسسات النشاط الخاص، ضمن مكونات المجتمع المدني كذلك، كونها تنصرف الى مهمة التنمية والخدمة المجتمعية، وبناء المجتمع ماديا ومعنويا، والتي تعدها ضمن مهام المجتمع المدني، ووفق ذات الاستدلال والحجة، يدخل هذا الفكر، التنظيمات المجتمعية، المعبرة عن الشرائح المجتمعية، المرتبطة دينيا، عقديا أو فكريا، ضمن مكونات المجتمع المدني أيضا.
فالمرجع في تصنيف المجتمع المدني، ضمن رؤى الفكر الإسلامي، ينحصر في نطاق المهام العامة، التي يحددها للمجتمع المدني ومكوناته، وهي تأمين الخدمات الضرورية للمجتمع أولا، وبناء المجتمع ماديا ومعنويا فكريا ثانيا، وكذا تأمين المعادل الاستراتيجي للدولة ثالثا، بما يسهم في المشاركة في مهامها، وبالتالي منع احتمالات الاستبداد وقمع الحريات العامة.
بينما يشكل أكاديميو الفكر المجتمعي المدني، على هذا التوسع في التعريف والتصنيف، كون الانتساب لهذه التنظيمات، ليس تطوعيا وإراديا، وإنما يكون بشكل لا إرادي، وذلك يتعارض مع اشتراطات ومقومات المجتمع المدني، التي تفرض التطوعية والإرادية وغير الربحية، في عمل وأداء مكونات المجتمع المدني.
غير أن الفكر المجتمعي الإسلامي، يرى أن هذه الانتماءات، "إرادية" على مستوى الواقع الخارجي، فلكل منتمٍ الحرية في أن يترك انتماءه أو يستمر عليه، كما له أن يفكّ ارتباطه، وحينئذٍ تتحلل المنظمة من التزاماتها تجاهه أيضاً، كما هو جار في العرف الأسري أو العشائري مثلاً، وفي هذه الجدلية، يمكن التمييز بين العائلة أو الأسرة صعودا، بصفتها وحدة انتماء إرادي، وبين التنظيمات التي تنصرف الى ترتيب حقوق أبنائها، وإسعاف المتضرر فيهم، وتقوية وشائج القربى بينهم، والتي يعبر عنها بالمجالس الأسرية، بصفتها وحدة مجتمعية، غير إرادية الإنتماء.
بمعنى أن الانتماء النسبي لهذه التنظيمات، يكون غير إرادي، لكنه من حيث العقد الاجتماعي الخاص، فهو إرادي وإيجابي، وهو الأصل والافتراض، لتضمن تماسك هذه التنظيمات وتطورها، بما يمكنها أن تسهم بشكل أفضل، في بناء المجتمع وتنمية البلاد.
والحال أن المتبنيات الأكاديمية وأدبيات المجتمع المدني، تحصر مكوناته ضمن المجموعات المجتمعية الوظيفية التالية:
1. مجموعات المصالح الخاصة
وهي المنظمات المهنية والاتحادات والنقابات والجمعيات، التي تلتئم فيها شريحة معينة، ترتبط فيما بينها باهتمامات ومصالح مشتركة، ذات طبيعة اقتصادية أو اجتماعية أو مهنية، تحدد السياسات التي تدعوا إليها، وتدافع عنها، وتدعم الشرائح المنضوية تحت عنوانها، إضافة إلى أن بإمكانها، أن تتخذ مواقف عامة، من قضايا ذات اهتمام شعبي عام، قد تقع خارج المفردات التي تخصّها مباشرة.
وضمن هذه التنظيمات المجتمعية، يمكن تضمين المجالس الأسرية العائلية أو ما هو أوسع منها، كونها تعبر عن المصالح المشتركة لأبنائها، أو المنتمين لها، ذات الطبيعة الإجتماعية، أو حتى ضمن الأهداف الإقتصادية المعيشية، أو الحماية من الفقر، وتأمين الحاجات الإنسانية، أو ضمن جوانب التوعية والإرشاد والسلوك المجتمعي المقبول، ويمكنها أن تسهم إيجابيا، في الإستجابة لقضايا المجتمع عموما، وذلك ضمن سقف القانون العام.
2. مجموعات المصالح العامة
وهي مكونات المجتمع المدني، التي تنشط في الاتجاه الاجتماعي العام، الذي يخص المجتمع ككل، كالمنظمات المهتمة في الصحة العامة، أو المهتمة بمصالح المرأة أو الطفل، أو المدافعة عن حقوق الإنسان والحريات العامة، وبضمنها المنظمات التي تراقب سير العملية السياسية والديمقراطية أو الإنتخابية وسلامة نزاهتها، أو الراصدة للرأي العام، وتنفيذ الحكومة إلتزاماتها، ضمن برنامجها العام، بما يضمن لها شرعية "الأداء"، أو ربما رصد أداء الدولة ومؤسساتها عموما، أو الساندة لمهامها، كتنظيمات مكافحة الجريمة، والفساد الإداري والمالي، وغير ذلك من إهتمامات الشأن الإجتماعي العام.
وتشكّل هذه المجموعات، جزءاً من جماعات الضغط السياسي، ومع أنه محدد مقارنة بالمجموعات الخاصة، لأسباب تاريخية وتأهيلية، لكنّه ذا دور اجتماعي وتنموي وحضاري كبير، وفي حالة ارتقائه إلى مستوى رفيع في الأداء، فإنه سيشكل قاعدة معلوماتية واسعة، لمراكز القرار السياسي.
وقد يدرج ضمن هذه المجموعات، ما تحرص متبنيات الفكر المجتمعي الإسلامي، أو الديني عموماً، لتضمينه في مكونات المجتمع المدني، وهي التنظيمات المعبرة عن مصالح وحقوق شرائح مجتمعية، تجمعها متبنيات عقدية دينية أو فكرية، بأهداف إنسانية، ثقافية معرفية، أو سياسية مدنية، أو تنموية رعوية.
وسيجري إفراد دراسات مستقلة، مستقبلاً، لمناقشة أدوار ومهام ومكونات، مجموعتي المصالح العامة والمصالح الخاصة، وبيان معوقاتها وإرثها المجتمعي، في الساحة المجتمعية العراقية نموذجاً، فضلاً عن رؤى الفكر المجتمعي الإسلامي فيها.
3. هيئات الإعلام ووسائله غير الحكومية
وهي الهيئات غير الربحية، المستقلة في سياساتها وبرامجها وميزانياتها، بالاعتماد على الدعم المالي، وعادة يجري ترخيصها ومتابعة أنشطتها، في الإطار التنسيقي والتقني العام، لجهة ضوابط الأمن الوطني والاستقرار الاجتماعي، ويدخل ضمن هذه المجموعات، الصحفيون العاملون في المؤسسات الصحفية المقروءة والمسموعة والمرئية، غير المملوكة للدولة.
وتولي الحكومة عادة، هذا القطاع اهتماماً كبيراً، كون العاملين فيه، قد درجوا على انتماء هيئاتهم مباشرة للدولة ونظامها السياسي، فلا يجهدوا عادة، في رسم السياسة واتجاه التأثير الإعلامي، في تنظيماتهم.
ويجري تشريع القوانين، التي تنظم العمل في الإعلام المرئي والمسموع والمقروء، وتنسيق استخدام الطيف الكهرومغناطيسي، بهدف ضمان الأداء الأمثل، للأنشطة ذات العلاقة، بتوجيه وتفعيل هذا القطاع، وتسعى السلطة التنفيذية ثم التشريعية، لتنظيم هيكلياتها، وأهدافها واطر أنشطتها.
إن لهذه المجموعات، دور كبير في بناء القاعدة المعلوماتية، لمراكز القرار والتأثير الاجتماعي، الذي ينعكس حتماً على التكتلات السياسية، التي تستحوذ على مقاعد ممثلي الشعب، والتي تتحمل مسؤولية التكليف، لتشكيل الحكومات المنتخبة، للدورات النيابية والحكومية القادمة، فضلاً عن أدوارها الخطيرة، في المرحلة القائمة، وسيجري إفراد دراسة خاصة بها.
4. مكونات المجتمع العلمي والبحثي
وهي المراكز البحثية العلمية، والجامعات والمؤسسات العلمية، والكليات الأهلية، ومجمّعات العلوم واللغة، ومجالس البحث العلمي، والروابط الأكاديمية التي ينشط من خلالها المفكرون والباحثون وأصحاب الرأي والفكر، بما يطلق عليه بتجمعات المجتمع العلمي.
إن لهذه التشكيلات، حضور وتقاليد فاعلة في الساحة العراقية، وعلى الرغم من ابتعادهم النسبي عن المجتمع، وقاعدته الواسعة، خاصة لجهة الأنشطة البحثية العلمية غير التطبيقية، أو ذات الصفة الأكاديمية الصرفة، التي تحكم العلاقة بين الجامعة أو البحث العلمي من جهة، وبين المجتمع ومتطلباته، من جهة أخرى.
غير أن المجتمع العراقي، بطبيعته وتقاليده، يكنّ لهذه الهيئات، احتراماً اعتبارياً كبيراً، ويستمع عادة إلى طروحاتها وآرائها، مما تشكّل بوصلةً مهمة، في توجيه الرأي العام، فيكون على الحكومة متابعة طروحاتها، لاعتمادها ضمن مصادر المعلومات، المعبرة عن الرأي العام النخبوي، لبناء وصنع القرار، وتشكيل وترصين العملية السياسية الدستورية، ودولة المؤسسات.
5. مشاريع النشاط الخاص الصغيرة الخيرية
وهي الورش الانتاجية ومعامل الصيانة والأنشطة الصناعية، أو الزراعية أو التجارية، الصغيرة الخيرية، التي تقوم وفق اشتراطات المجتمع المدني.
إن هذه المكونات، يكون لها دور حيوي في المجتمع، لجهة القضاء على البطالة، وامتصاص الحجم الكبير من العمالة الواسعة، وخاصة غير المؤهلة تأهيلاً علمياً، فهي بذلك توفر فرصاً للعمل، كما أنها تؤهل حجماً من المهارات والمهن الإبداعية، التي تمثل سمة رفيعة للمجتمع، وقاعدة للتراث الوطني.
يجري تشغيل هذه المشاريع، كجزء من أنشطة المجتمع المدني، كخدمة اجتماعية، وبالتالي فإنها تشكل دوراً اجتماعياً، خاصة إذا ما جرى تنظيمها قانوناً، وفق تقاليد ديمقراطية، في اختيار إداراتها ومسؤوليها، حتى لو جرى تمويلها الأساس، من خلال صناديق حكومية غير ربحية، تتبع هيئات العمل أو التنمية الصناعية، أو أن تقوم بتمولها، الشركات القائمة الكبرى، في قطاع الإتصالات أو المال وغيرها، أو الجهات المانحة الدولية، ذات الإهتمام.
وهذه الأنشطة لازالت غير فاعلة في الساحة الاقتصادية العراقية، برغم الحاجة الماسة لها، لتوفير فرص العمل، وتحريك دورة السوق، وإمتصاص البطالة، خاصة المشاريع المدرّة للدخل، فضلاً عن دورها الحيوي، في تنشيط القطاع الخاص، وتفعيل مشاركته في الإقتصاد الوطني.
وللفكر المجتمعي الإسلامي، رؤية أخرى للنشاط الإقتصادي الخاص عموماً، إذ يدرجه ضمن مكونات المجتمع المدني، كونه يحمل مسؤولية مجتمعية، في تنمية البلاد والمساهمة في بنائه وتأمين الخدمات الضرورية للمجتمع، وهي ضمن مهام مؤسسات المجتمع المدني، إذ يرفض أن تحصر هذه المسؤوليات في الدولة، فتكون حكراً لها أو عليها، ويحمّل النشاط الخاص، بما في ذلك تشكيلاته الصناعية الكبرى، مسؤولية المساهمة الطوعية، في التنمية والبناء، وليس الإهتمام بتنفيذ المشاريع، ذات الجدوى الإقتصادية للمؤسسة حصراً.
6. واجهات المؤسسة الدينية
وبضمنها الهيئات الدينية والجمعيات المتخصصة، أو المهتمة بالتوعية والإرشاد والتثقيف الديني، وتفريعاتها الناشطة في المناسبات الدينية، ولا يخفى أهمية هذه المكونات في التأثير الاجتماعي والسياسي، سواءً في صنع القرار، أو رفض، أو تأييد التكليف الحكومي، وتوجيه الشارع الإنتخابي، وضبط إيقاع الرأي العام الشعبي، من خلال أنشطة الخطابة والوعظ، إضافة لحركة المهتمين بالتبليغ والإرشاد، أو الدعاة ومتولي دور العبادة.
وكذا الأنشطة الإعلامية والتوجيهية الواسعة، التي تتولى الخطاب الديني وتوجيهاته، في نشر الثقافة الدينية في المجتمع، بما تتضمنه من قيم وأخلاقيات وسلوكيات، للفرد والمجتمع، ودورها الفاعل في ضمان السلم المجتمعي والأهلي، فضلا عن كونها تمثل امتدادات طبيعية، لحركات وتنظيمات سياسية، ناشطة في المجتمع، ولها حضور فاعل في العملية السياسية.
غير أن رأس الهرم في هذه التنظيمات "المجتمعية"، وهي المرجعيات الدينية وزعاماتها، والتي يمكن أن يعبر عنها بدور الإفتاء، أو الحوزات العلمية، أو الرئاسات الدينية الراعية، تنأى بنفسها عن تصنيفها ضمن هيئات المجتمع المدني، إذ قد يلامس هذا التصنيف، الجانب الإعتباري لها، في مقاربة شأنها، وأدوارها الرعوية العامة في المجتمع، والتي تشمل رسم البوصلة العامة للدولة ضمنا.
والحال أن الرئاسات الدينية عموما، هي الجهة الراعية والموجهة والساندة لواجهاتها، التي لا غضاضة في تصنيفها ضمن مكونات المجتمع المدني، ومنظماته غير الحكومية، بل هي معبرة عنها، في إشتراطاتها وأهدافها العامة، بما في ذلك إستقلاليتها، وعدم جواز تمويل الدولة لها استثناءً.
اضف تعليق