عندما عصفت ازمة جائحة كورونا بالعالم ظهرت اغلب مساوئ الأنظمة الحاكمة في مختلف البلدان من جهة ومساوئ النظام العالمي القائم منذ عقود من جهة أخرى في التعاطي الداخلي والخارجي في مثل هكذا أزمات عابرة للحدود الجغرافية والسياسية والاقتصادية، حتى اقترب النظام العالمي من حالة شبه فوضوية...
عندما عصفت ازمة جائحة كورونا بالعالم ظهرت اغلب مساوئ الأنظمة الحاكمة في مختلف البلدان من جهة ومساوئ النظام العالمي القائم منذ عقود من جهة أخرى في التعاطي الداخلي والخارجي في مثل هكذا أزمات عابرة للحدود الجغرافية والسياسية والاقتصادية، حتى اقترب النظام العالمي من حالة شبه فوضوية غير مسبوقة وشلل تام على المستوى الاقتصادي والسياسي والتعليمي والتنقل والعمل، فضلا عن فشل نظام الرعاية الصحي للدول المتقدمة في احتواء الازمة او التقليل من خطرها داخل بلدانهم او مساعدة الدول الأكثر فقراً وتخلفاً للوقوف بوجه هذه الجائحة العالمية.
وقد تنبئ السياسي المخضرم "هنري كيسنجر"، (وزير الخارجية الأمريكي الأسبق ومستشار الأمن القومي في عهد الرئيس نيكسون)، بان هذه الجائحة "ستغير النظام العالمي للأبد وأن تأثيرها المضر على الصحة العامة قد يكون مؤقتا إلا إن الأزمة السياسية والاقتصادية التي خلفها تفشي الفيروس ستستمر إلى أجيال عديدة"، مشيراً الى "إن الجهود المبذولة لمواجهة تفشي الوباء، رغم ضخامتها وإلحاحها، ينبغي ألا تشغل قادة العالم عن مهمة أخرى ملحة تتمثل في إطلاق مشروع موازٍ للانتقال إلى نظام ما بعد كورونا".
واعتبر أنه "لا يمكن لأي دولة، حتى وإن كانت الولايات المتحدة، أن تتغلب على الفيروس بجهد وطني محض، وأن التعاطي مع الضرورات المستجدة الآن ينبغي أن يصاحبه وضع رؤية وبرنامج لتعاون دولي لمواجهة الأزمة"، مضيفا أن "الإخفاق في العمل على المحورين في آن واحد قد تترتب عليه نتائج سيئة"، وختم كيسنجر مقاله بالقول: "العالم يعيش الآن فترة تاريخية، والتحدي التاريخي أمام قادة العالم هو إدارة هذه الأزمة وبناء المستقبل والفشل في تحقيق ذلك قد يؤدي إلى إشعال العالم".
وقد وقف العالم امام هذه الازمة بمفارقات عديدة ينبغي إعادة النظر فيها لعل أبرزها:
1. لا يمكن ان تعيش وتزدهر أي دولة او نظام بمعزل عن الاخرين، مهما كانت درجة القوة والغنى والتقدم التي تتمتع بها، فالدول أجزاء تشكل بتلاقيها النظام العالمي، وسقوط الدول العظمى في الازمات الكبرى قد يكون أكبر وأكثر ضررا من سقوط غيرها من الدول الصغرى او الضعيفة.
2. التعاون والتكافل الإنساني هو الأساس في تشكيل أي نظام عالمي جديد وليس الاستبداد والاستعباد وتقسيم الدول الى فئات او ارقام، فالتكامل والنجاح لا يتم عن طريق تهميش دولة او نظام على حساب دولة او نظام اخر قد تشكل الحاجة اليه مستقبلا ضرورة واهمية كبرى.
3. ان عجز وتصارع دول كبرى فيما بينها على توفير جهاز طبي واحد لإنعاش المريض او كمامة طبية تقدمها لمواطنيها يبين حجم الفشل الكبير الذي تعانيه الأنظمة الحاكمة في الاستعداد والتعاون امام الازمات الكبرى التي يمكن ان تهدد الوجود الإنساني، وبالتالي فشل النظام العالمي في احتواء الازمات الكبرى او التخطيط لاحتوائها مستقبلاً.
4. فقدان الثقة والهلع والسير نحو المجهول والتدهور الاقتصادي السريع كانت أبرز محطات جائحة كورونا على المستوى الإنساني، حيث لم تتمكن اغلب مؤسسات النظام العالمي القائم (الأمم المتحدة، منظمة الصحة العالمية، البنك الدولي، صندوق النقد الدولي، منظمة التجارة العالمية، أوبك...الخ) من إيصال رسائل الاطمئنان والثقة والهدوء على المستوى العالمي.
5. التبعية الاقتصادية والاستغلال والدكتاتورية واحتكار رؤوس الأموال والتكنولوجيا وغيرها من العلامات التي شكلت النظام العالمي القائم حالياً لا ينبغي ان تستمر في قيادة المستقبل لأنها فشلت في إدارة الازمة الحالية وسقطت بسرعة كبيرة.
لقد شخص الدين الإسلامي العظيم هذه المشكلة وحذر من عواقب الانجرار وراء المصالح والانانية وقدم الحلول الإنسانية العملية، كما حض الإنسانية على التكافل والتكاتف والتعاون من اجل نيل سعادة ورفاهية الانسان وتحقيق السعادة والعدالة لجميع المجتمعات الإنسانية، حيث أشار القران الكريم الى حقيقة: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) البقرة: 29، فيما حث البشر على التعاون فيما بينهم بقوله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) المائدة: 2، اما الاحاديث النبوية وسيرة الرسول الكريم واهل بيته الاطهار فقد حفلت بالأقوال والافعال التي شجعت ومارست التعاون الإنساني والتكافل الاجتماعي في أروع صوره أيام بزوغ نجم الحضارة الإسلامية.
ان من أبرز النجاحات التي حققها الإسلام داخل المجتمعات المتفرقة عرقياً واثنياً وفكرياً وثقافياً هو تحقيق العدالة والتكافل والتعاون وضمانه للجميع من دون تفريق او تمييز، وهو ما ضمن النجاح الكبير له، ويرى المرجع الراحل السيد محمد الشيرازي (رحمه الله) السبب وراء ذلك لأنه: "وفر الإسلام الإنسانية والتعاون والخدمة والرفاه والثقة المتبادلة والاطمئنان والحياة السعيدة والاكتفاء الذاتي ورخص الأسعار والحوائج الجسدية والنفسية، وبهذه كلها شيد المسلمون حضارة إسلامية إنسانية كاملة"، خصوصاً وان الإسلام ينظر الى الإنسانية باعتبارها "وحدة واحدة، واللازم على الإنسان خدمة الإنسان الآخر مهما كان لونه وعقيدته واتجاهه".
إن جوهر النظام العالمي (القائم حالياً)، بحسب ما يفسره الخبراء هو "مجموعة القوانين والقيم الكامنة التي تفسر حركة هذا النظام وسلوك القائمين وأولوياتهم واختياراتهم وتوقعاتهم"، وتتضمن الأخلاقيات والإجراءات المتبعة (حسب رأي دعاة النظام العالمي الجديد) على أنها "صورة من أشكال تبسيط العلاقات وتجاوز العقد التاريخية والنفسية والنظر للعالم باعتباره قرية واحدة"، وبالتالي فانه، (حسب رؤيتهم)، هو "نظام رشيد يضم العالم بأسره، فلم يعد هناك انفصال أو انقطاع بين المصلحة الوطنية والمصالح الدولية وبين الداخل والخارج، وهو يحاول أن يضمن الاستقرار والعدل للجميع ويضمن حقوق الإنسان للأفراد".
لكن في حقيقة التطبيق لهذه النظرية الحاكمة نجد الفرق واضح بين الكلام والفعل، فالقائمون على تطبيق النظام العالمي الحالي ركزوا السلطة والقوة والاقتصاد والتكنولوجيا بأيديهم بعيداً عن مشاركتها مع الاخرين، كما استخدموا المصالح الدولية كأداة للتدخل في المصالح الوطنية خدمة لمصالحهم الخاصة، وهو ما أدى الى تباعد وتفكك النظام العالمي خصوصاً مع فشل أدوات هذا النظام في انقاذ العالم من فايروس غير خلال اربعة أشهر فقط الكثير من المفاهيم والاسس السائدة لعقود من الزمن.
لذلك قد تكون هذه الجائحة فرصة مناسبة للإنسانية لإعادة التفكير مرة أخرى في ترتيب اوراقها الاقتصادية والسياسية والأخلاقية على أسس تبتعد عن المصالح الخاصة والانانية والاستبداد والتبعية والعنف والحروب وخلق الازمات وتقوم على أساس:
1. التعاون والتكافل الإنساني العالمي والاستفادة من كل الطاقات والثروات الطبيعية وحركة رؤوس الأموال والاستثمارات بما يحقق السعادة والتقدم والرفاه لجميع المجتمعات الإنسانية دون الحاجة الى تمييز مجتمع على حساب الاخر.
2. نظام عالمي قائم على الشفافية والوضوح في التعامل الدولي وعدم التمييز بين دولة وأخرى في التعامل لخلق مساحة من الثقة المتبادلة على المستوى العالمي، خصوصاً من قبل المؤسسات العالمية (الأمم المتحدة، منظمة الصحة العالمي، البنك الدولي، صندوق النقد الدولي، منظمة التجارة العالمية، أوبك...الخ) التي من المفترض ان يكون دورها هو تقديم الدعم والاسناد للدول المحتاجة من دون تكبيلها بالقيود والتبعية.
3. التفكير المستقبلي للتعاون الدولي الشامل وليس الخجول او المحدود في مواجهة الازمات وتحمل جميع الدول لمسؤولياتها بعيداً عن المصالح الضيقة، فالجميع في خندق واحد، خصوصاً ان التعاون الدولي في أيام الرخاء والنجاح الاقتصادي يحتم على الجميع التعاون في أيام الازمات والكوارث.
4. إعادة النظر في النظام الاقتصادي القائم حالياً والذي يراعي مصالح الدول الكبرى ولا يراعي الدول الأخرى التي تضررت كثيراً وتحولت الى مجرد معامل وايادي عاملة رخيصة لأصحاب رؤوس الأموال العالمية التي لا يتجاوز تعدادهم بالنسبة للعالم سوى (1%) فقط.
اضف تعليق