الدول ربما تكون في وضع أفضل بدون قنبلة مقارنة بوضعها في وجودها، فإن سياسة إبطاء انتشار تكنولوجيا الأسلحة النووية سترتكز على أساس قوي. ومن الناحية الواقعية، لا يحتاج النظام الدولي إلى الالتزام التام حتى يتسنى له امتلاك تأثير تقييدي كبير. ولكن بمجرد أن يبدأ تآكل المعايير والمؤسسات، فقد يكون من الصعب إيقافه...
بقلم: جوزيف ناي
كمبريدج ــ مرت ثمانية عقود من الزمن منذ استُـخـدِمَت الطاقة الكامنة في الذرة في الحرب. ولكن بدلا من المعاناة من معركة فاصلة نووية، حقق العالم استقرارا نوويا مدهشا ــ حتى الآن. من اللافت للنظر بذات القدر أنه على الرغم من انتشار التكنولوجيا النووية إلى بلدان عديدة، لم يختر سوى قِـلة منها استخدامها لتطوير الأسلحة. استفاد العالم من نظام فعّال لمنع الانتشار النووي، وهو عبارة عن مجموعة من القواعد والمعايير والمؤسسات التي ثبطت الانتشار النووي ــ وإن كان هذا بشكل موقوف وغير كامل. ولكن هل من الممكن أن يصمد هذا النظام في عصر من التحولات الجيوسياسية السريعة؟
في ستينيات القرن الماضي، تنبأ الرئيس الأميركي جون كينيدي بأن حوالي 25 دولة ستمتلك أسلحة نووية بحلول السبعينيات. ومع ذلك، لن نجد اليوم سوى تسع دول فقط، لأن الحكومات اتخذت خطوات لمنع الانتشار.
في عام 1968، تفاوضت الدول على معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية (NPT)، التي اعترفت بأن خمس دول تمتلك أسلحة نووية بالفعل، لكنها حصلت على تعهدات من الدول الأخرى بعدم تطويرها. على مدار عقود من الزمن، أرسلت الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي تتخذ من فيينا مقرا لها مفتشين إلى الدول التي تطور الطاقة النووية لضمان استخدامها للأغراض المدنية فقط. وفي سبعينيات القرن العشرين، أعطت إدارة الرئيس الأميركي جيمي كارتر أولوية قصوى لإبطاء الانتشار النووي، وذلك جزئيا من خلال مجموعة الموردين النوويين المنشأة حديثا، والتي تعهدت الدول الأعضاء فيها بالالتزام بالانضباط في تصدير تكنولوجيا التخصيب وإعادة المعالجة الحساسة.
أصبح نظام منع الانتشار هذا جزءا مهما من النظام العالمي، لكن بعض المحللين يعتقدون أنه يواجه تهديدات جديدة. حتى أن مدير عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية رافاييل ماريانو جروسي قلق بشأن مستقبل النظام. يتمثل التحدي الأكثر وضوحا في برنامج إيران لتخصيب اليورانيوم بنسبة أعلى من 60% ــ بما يتجاوز كثيرا المستوى المطلوب للاستخدام في المفاعلات المدنية. تشير تقديرات جروسي إلى أن إيران من الممكن أن تصنع قنبلة في غضون أشهر، وليس سنوات؛ وإذا طورت إيران سلاحا نوويا، تقول المملكة العربية السعودية إنها ستحذو حذوها وتنسحب من معاهدة منع الانتشار النووي. وتهدد إسرائيل والولايات المتحدة باستخدام القوة لردع إيران، حتى على الرغم من انخراط الولايات المتحدة وإيران في مفاوضات جديدة حول الحد من البرنامج النووي الإيراني.
وراء هذا التحدي الإقليمي في الشرق الأوسط يكمن تهديد عالمي لنظام منع الانتشار النووي. بعد الحرب العالمية الثانية، قيدت ألمانيا واليابان خططهما النووية بسبب تحالفهما مع الولايات المتحدة. كانت مصداقية الردع النووي الأميركي كافية لتوفير الأمن لهما، وكان الأمر نفسه ينطبق على عشرات الدول الأخرى، في منظمة حلف شمال الأطلسي وفي شرق آسيا. ولكن الآن بعد أن أضعفت إدارة ترمب هذه التحالفات، تسببت أيضا في إضعاف الردع الموسع من جانب أميركا، الأمر الذي دفع آخرين إلى دراسة ما إذا كان ينبغي لهم امتلاك أسلحة نووية تخصهم. وهم يدركون تمام الإدراك أن أوكرانيا تخلت عن الأسلحة النووية التي تعود إلى الحقبة السوفيتية التي كانت متمركزة على أراضيها، فقط لكي تغزوها روسيا (التي ضمنت وحدة أراضي أوكرانيا في مذكرة بودابست لعام 1994).
يقول بعض المحللين إننا لا ينبغي لنا أن نقلق، لأن انتشار الأسلحة النووية سيكون له آثار مفيدة على السياسة العالمية. ويؤكدون أنه مثلما حافظت الأسلحة النووية على الحكمة في العلاقات بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، فإن الأسلحة النووية قد تؤدي إلى استقرار موازين القوى الإقليمية اليوم.
لكن هذا الموقف الذي يرى أن المزيد من الأسلحة النووية أفضل لا يمكن الدفاع عنه إلا إذا كانت الظروف السياسية متشابهة. فهو يفترض وجود أنظمة قيادة وسيطرة مستقرة؛ وغياب الحروب الأهلية الخطيرة أو الدوافع المزعزعة للاستقرار (مثل النزعات الوحدوية)؛ والانضباط بشأن إغراء شن ضربات وقائية خلال المراحل الأولى من الصراع، عندما تكون قدرات الأسلحة النووية الجديدة ضعيفة وغير حصينة.
مثل هذه الافتراضات غير واقعية في أجزاء كثيرة من العالم. فبعيدا عن تعزيز الأمن، قد تتمثل الآثار الأولى لامتلاك قدرة نووية في كثير من الظروف في زيادة ضعف الدولة وانعدام أمنها. علاوة على ذلك، حتى الضربة النووية "التكتيكية" المحلية ستشكل خرقا خطيرا لمحظور عالمي دام ثمانين عاما.
يتعين على المرء أيضا أن يضع في الحسبان الأدوار المزعزعة للاستقرار التي قد تلعبها جهات فاعلة لا تنتمي إلى دول بعينها. فحتى لو كان خطر حصول جماعة إرهابية على جهاز نووي متدنيا، فإن مجرد هذا الاحتمال يخلق تحديات خطيرة. فحقيقة أن المواد القابلة للاستخدام في الأسلحة يمكن سرقتها أو بيعها إلى دول مارقة في السوق السوداء تعني أن التهديد الذي تشكله الجماعات غير المنتمية إلى دول لا يعتمد فقط على قدراتها التكنولوجية. كما أن القوى العظمى اليوم لن تكون بالضرورة في مأمن من الآثار. ذلك أن الانتشار الواسع أو السريع للقدرات النووية من الممكن أن يؤثر على التوازن الاستراتيجي العالمي وعلى احتمالات قيام نظام عالمي سلمي وعادل في المستقبل.
من الواضح أن الاتجاهات السياسية والتقنية ستستمر في التغير. لكن السؤال الرئيسي يتعلق بمستقبل تحالفات الولايات المتحدة والردع الموسع. ولأن الانتشار النووي قد يكون مزعزعا للاستقرار، وأن الأسلحة النووية لا تعزز دائما الموقف الجيوسياسي للدولة الحائزة لها، وأن القوى العظمى لا يمكنها أن تفلت تماما من التأثيرات، ينبغي أن تتوفر مصلحة عالمية قوية في الحفاظ على نظام منع الانتشار.
في ظل الظروف الراهنة، قد يكون بعض التفاوت في التسلح مقبولا لدى أغلب الدول لأن البديل ــ المساواة الفوضوية ــ أشد خطورة. وطالما أن الدول ربما تكون في وضع أفضل بدون قنبلة مقارنة بوضعها في وجودها، فإن سياسة إبطاء انتشار تكنولوجيا الأسلحة النووية سترتكز على أساس قوي. ومن الناحية الواقعية، لا يحتاج النظام الدولي إلى الالتزام التام حتى يتسنى له امتلاك تأثير تقييدي كبير. ولكن بمجرد أن يبدأ تآكل المعايير والمؤسسات، فقد يكون من الصعب إيقافه.
اضف تعليق