التاريخ أثبت قوة التقاليد الإنسانية المتينة في الحفاظ على كرامة الإنسان. والذكاء الاصطناعي المبني بهذه الروح قادر على تحقيق فوائد غير عادية في حين يجنبنا مخاطر كارثية. نحن في احتياج إلى رؤية للذكاء الاصطناعي تدعم الحس الإنساني، وتضخم الإبداع، وتحمي بيئتنا الهشة ــ وليس رؤية تضعنا على الهامش...
بقلم: مصطفى سليمان

ريدموند ــ لعقود من الزمن، كان اختبار تورنج هو نجم الشمال الهادي لباحثي الذكاء الاصطناعي. اليوم، جرى تجاوز ذلك الاختبار بهدوء. مع ظهور نماذج التفكير المنطقي وقدرات الوكالة، ومع تزايد وتيرة تشييد بنية الذكاء الاصطناعي الأساسية، تخطينا نقطة انقلاب في الرحلة نحو الذكاء الخارق: النقطة التي يتجاوز عندها الذكاء الاصطناعي الأداء البشري في جميع المهام.

الواقع إن السؤال الأكثر أهمية في عصرنا الحالي ليس ما إذا كان الذكاء الاصطناعي ليتفوق علينا، لأنه تفوق علينا بالفعل في بعض النواحي (حاول أن تتفوق على الذكاء الاصطناعي في المعرفة العامة)، وفي نواحٍ أخرى كثيرة، سيتفوق علينا، وفي بعض النواحي سنكون دائما متفردين. السؤال الحقيقي، إذن، هو ما إذا كان بإمكاننا تشكيل الذكاء الاصطناعي لتعزيز الازدهار البشري وليس تقويضه. هذا هو التحدي الأكثر أهمية في عصرنا.

من المؤكد أن الجميع أصبحوا مهيئين الآن لإبداء الانزعاج إزاء الضجيج الـمُـثار حول الذكاء الاصطناعي. وأنا أتفهم ذلك. ولكن لن نبالغ مهما قلنا في تصوير جسامة المخاطر التي تحدق بنا. لطالما كان العلم والتكنولوجيا من أعظم محركات تقدم البشرية. فعلى مدار آخر قرنين ونصف القرن من الزمن، ضاعف هذا المحرك من متوسط العمر المتوقع، وانتشل مليارات البشر من براثن الفقر، ومَـنَـحَـنا المضادات الحيوية، والكهرباء، والاتصالات العالمية اللحظية. الذكاء الاصطناعي هو الفصل التالي في هذه القصة. فهو يمثل أفضل فرصة لنا لتسريع الاكتشافات العلمية، وتعزيز النمو الاقتصادي ورفاهة الإنسان. كلما دار الحديث حول الذكاء الاصطناعي، فإن هذه الإمكانية تستحق أن توضع في الاعتبار.

لكن تسخير إمكانات الذكاء الاصطناعي لن يعمل بنجاح إلا إذا بنينا الذكاء الاصطناعي على النحو الصحيح. إن تكاليف الفشل في إدارة الذكاء الاصطناعي بحكمة هائلة. لا أحد حتى الآن يملك إجابات مطمئنة حول كيفية احتواء أو مواءمة هذه الأنظمة. نحن عالقون في لحظة غريبة، حيث نواجه أقوى التكنولوجيات في التاريخ ويغلب علينا انعدام اليقين حول كيفية التحكم بها أو ما إذا كانت لتظل مفيدة.

أعتقد أننا نستطيع تجاوز الضجيج وفهم الأمر على هذا النحو: الذكاء الاصطناعي، مثله كمثل كل التكنولوجيات، يمكن الحكم عليه باختبار بسيط. هل يعمل على تحسين حياة الإنسان؟ هل يعمل بوضوح في خدمة البشر؟

بينما نشرع في دخول المرحلة التالية من الذكاء الاصطناعي، تكمن الإجابة على مثل هذه الأسئلة في ما أسميه الذكاء الخارق الإنساني (HSI): ذكاء اصطناعي متقدم مصمم ليبقى تحت السيطرة، ويظل منضبطا وفي خدمة الإنسانية. يتعلق هذا المشروع صراحة بتجنب الكيان غير المحدود الذي يتمتع باستقلالية تامة بأي ثمن.

بدلا من ذلك، يجب أن نركز على الذكاء الخارق الذي يخص بكل مجال بعينه. فبدلا من مجرد صنع نظام قادر ببساطة على التحسن بلا انقطاع والانطلاق بنفسه إلى أي غرض قد يصل إليه في نهاية المطاف، يتمثل الغرض الأساسي في تقديم فوائد عملية في العالم الحقيقي لمليارات من البشر. يجب أن يظل الذكاء الاصطناعي إلى الأبد تابعا خاضعا للبشرية على نحو لا لبس فيه. هذه هي رؤية فريقنا المعني بالذكاء الخارق في ميكروسوفت، حيث تتمثل مهمتنا الأساسية في الإبقاء على البشرية آمنة ومسيطرة على نحوٍ راسخ.

ولكن لماذا نلجأ إلى هذه الفلسفة الإنسانية؟ لأن التاريخ أثبت قوة التقاليد الإنسانية المتينة في الحفاظ على كرامة الإنسان. والذكاء الاصطناعي المبني بهذه الروح قادر على تحقيق فوائد غير عادية في حين يجنبنا مخاطر كارثية. نحن في احتياج إلى رؤية للذكاء الاصطناعي تدعم الحس الإنساني، وتضخم الإبداع، وتحمي بيئتنا الهشة ــ وليس رؤية تضعنا على الهامش.

الواقع أن الجائزة التي ستجنيها البشرية هائلة: عالم من التقدم السريع في مستويات المعيشة والعلوم، وزمن من أشكال الفن والثقافة والنمو الجديدة. إنها مهمة ملهمة حقا وكانت حافزا لي لعقود من الزمن. ينبغي لنا أن نحتفي بالتكنولوجيا ونعمل على تسريع تطويرها باعتبارها أعظم محرك للتقدم عرفته البشرية على الإطلاق. لهذا السبب نحن في احتياج إلى الكثير والكثير منها.

يقدم الذكاء الخارق الإنساني مسارا أكثر أمانا إلى الأمام. ومن الأمثلة على هذا أن يظل قائما على الاختراقات الخاصة في كل مجال على حِـدة، على أن يخلف تأثيرا مجتمعيا عميقا. تخيلوا معي تطبيقات الذكاء الاصطناعي التي تساعد في تخفيف أعباء الحياة اليومية الذهنية، وتعمل على تعزيز الإنتاجية، وتحول التعليم من خلال التعلم التكيفي الفردي. تخيلوا ذكاء خارقا طبيا يقدم تشخيصات دقيقة بتكلفة معقولة على مستوى الخبراء والتي بإمكانها إحداث ثورة في الرعاية الصحية العالمية، وهي قدرات استعرضها بالفعل فريقنا الصحي في Microsoft AI. ولنتأمل هنا إمكانات التقدم المدفوع بالذكاء الاصطناعي في مجال الطاقة النظيفة والتي ستتيح توليد الطاقة بوفرة وبتكلفة منخفضة، وتخزينها، وإزالة الكربون لتلبية الطلب المتزايد، وحماية الكوكب في الوقت ذاته.

مع الذكاء الخارق الإنساني، هذه ليست أحلاما خيالية. إنها أهداف من الممكن إنجازها ليستفيد منها الناس في مختلف أنحاء العالم، فتزودهم بتحسينات ملموسة في حياتهم اليومية.

البشر أكثر أهمية من التكنولوجيا أو الذكاء الاصطناعي، وهذا من نافلة القول. قد يكون الذكاء الخارق أفضل اختراع على الإطلاق، ولكن فقط إذا التزم بهذا المبدأ. وهذا يعني ضمان المساءلة والشفافية، والاستعداد لجعل السلامة أولوية قصوى. لا يتمثل هدفنا في بناء ذكاء خارق بأي ثمن، بل اتباع مسار حذر نحو بناء ذكاء خارق منضبط بما يتماشى مع القيم، ويركز دائما على رفاهة البشر.

ينبغي لنا جميعا أن نسأل أنفسنا: أي نوع من الذكاء الاصطناعي نريد حقا؟ الإجابة على هذا السؤال ستشكل مستقبل الحضارة. والإجابة، في اعتقادي، هي الذكاء الخارق الإنساني.

* مصطفى سليمان، الرئيس التنفيذي لشركة مايكروسوفت للذكاء الاصطناعي، ومؤلف كتاب "الموجة القادمة: التكنولوجيا، والقوة، والمعضلة الكبرى في القرن الحادي والعشرين" شارك سابقًا في تأسيس شركتي إنفليكشن للذكاء الاصطناعي وديب مايند.

https://www.project-syndicate.org/

اضف تعليق