يعد التخطيط حجر الزاوية في تحقيق الازدهار والنجاح عند المجتمعات الاستشارية (الديمقراطية)، حيث يكون الاعتماد كبيراً على تركيز كافة الموارد البشرية والمالية والفنية للقطاع الحكومي (العام) والقطاع الاستثماري (الخاص) والمجتمع لإنضاج عملية مشتركة يربح فيها الجميع في تحقيق استدامة ربحية على المدى الطويل وفق آليات...

يعد التخطيط حجر الزاوية في تحقيق الازدهار والنجاح عند المجتمعات الاستشارية (الديمقراطية)، حيث يكون الاعتماد كبيراً على تركيز كافة الموارد البشرية والمالية والفنية للقطاع الحكومي (العام) والقطاع الاستثماري (الخاص) والمجتمع لإنضاج عملية مشتركة يربح فيها الجميع في تحقيق استدامة ربحية على المدى الطويل وفق آليات وحسابات علمية بعيداً عن الحسابات الآنية او المصلحية قصيرة المدى، والتي عادة ما تؤدي الى ضياع الجهود الفردية والجمعية داخل الدولة لحساب فئة معينة تحاول كسب جميع المنافع لصالحها.

أهمية التخطيط

تبرز أهمية التخطيط في النجاح للوصول الى الهدف المرسوم بـ:

1. سلوك أقصر الطرق

2. استخدام اقل الكلف

3. تحقيق أفضل النتائج

كما ان نجاح التخطيط السليم المبني على أسس علمية وواقعية يمكن ان يحقق قفزة اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية كبيرة للدولة التي تعتمد عليه في سعيها للتطور، وقد خلصت معظم الدول المتطورة الى اعتماد التخطيط كقاعدة أساسية قبل الشروع باي عملية تطويرية مستقبلية في أي قطاع حيوي من قطاعاتها، بخلاف الدول والمجتمعات التي قللت من قيمة التخطيط بشكل مباشر او غير مباشر واعتبرته من الأمور الثانوية او الرفاهية، وبالتالي وقعت ضحية لسوء الإدارة والتخطيط الاني قصير المدى الذي نتج عنه المزيد من المشاكل والاحباطات على المدى المتوسط والبعيد.

ان "السلبية المتأصلة في النفوس الضعيفة" هي الدافع وراء هذا النهج الرجعي في عدم التعاطي مع الواقع المتسارع في خطاه، حسب ما يراه المرجع الراحل السيد محمد الشيرازي حيث يقول: "اعتاد كثير من المسلمين على الانسحاب من ميادين الحياة، إما بحجة مخالفة الشرع – كما يكثر ذلك في المتدينين – وإما بحجة عدم التمكن من البقاء والاستمرار في العمل، وإما بحجة عدم الإمكانات، أو ما أشبه ذلك، والغالب أن كل هذه المبررات، إنما هي واجهة تختفي وراءها السلبية المتأصلة في النفوس الضعيفة".

وعلى هذا الأساس لا بد لنا من أن نعمل في مسيرين:

1. عمل يرتبط بالدنيا: "أن نعمل لما يصلح عيشنا في الدنيا"

2. عمل يرتبط بالآخرة: ان شرط عمل الدنيا هو ان "لا يفسد آخرتنا أيضاً"

ويعتبر المرجع الراحل التخطيط ضرورة من ضرورات الحياة السليمة اذ انه: "من الضروري لمن يريد البدء بالحياة السليمة (أن يخطط تخطيطاً دقيقاً لكل جوانب الحياة) ...، فإنه بالتخطيط يؤمن عادة من الوقوع في الأخطاء، كما يكون الوصول أضمن والسلامة أكثر".

كيفية التخطيط

بالتأكيد هناك العديد من المدارس والاتجاهات والنظريات والدراسات التي نهجت طرقاً مختلفة في كيفية التخطيط وطرقه وسلوكياته وغيرها، لكن هناك العديد من المشتركات الأساسية في أي عملية تخطيط مسبقة ينبغي الاخذ بها لتحقيق الهدف في نهاية المطاف، فمن يريد أن يخطط تخطيطاً دقيقاً لكل جوانب الحياة لابد له، حسب رؤية المرجع الراحل، من أمور اهمها:

1. تقدير الهدف المطلوب الذي يريد الوصول إليه.

2. كمية وكيفية المقدمات الموصلة إلى ذلك الهدف.

3. رسم السياسة التي تحكم العمل والعامل لأجلها.

4. ملاحظة القدر المحتاج إليه من المادة وما يلزمه من البشر وما إلى ذلك.

5. ترتيب الأعمال المطلوبة ترتيباً زمنياً حسب ما بينها من العلل والمعاليل والارتباطات والملازمات.

6. الطريق الذي يجب سلوكه مما يكون أقصر وأسهل وآمن.

ان تطور الحياة مستمر وبوتيرة متسارعة، فهي لا تنتظر أحد "إن الحياة في العالم الحاضر، لا يمكن أن تبقى، فضلاً عن أن تتقدم، إلا بالتخطيط لكافة نواحي الحياة"، لذا كان لزاما على الافراد (الاسرة)، الحكومات (الدول)، المجتمعات (الشعب)، ان يخطط للمستقبل، واولى مراحل التخطيط للحياة وتجديدها هو فهما كما هي: "على من يريد تجديد الحياة، حياة نفسه أو حياة جماعة أو حياة أمة، أن يفهم الحياة كما هي، فيواظب حتى لا يكون ممن يفهمها فهماً هامشياً أو مقلوباً"، هي تختصر لك نصف الطريق نحو النجاح في تحقيق ما يصبو اليه، وقد كان نصيب المسلمين من هذا الامر هو الأقل لأسباب عديدة، ما دعا غيرهم الى اخذ مكان الريادة، وهو ما أشار اليه المرجع الراحل (رحمه الله) بالقول ان: "المنظمات التخطيطية الشرقية والغربية، أخذت تلتهم كل إمكانياتهم وكل مواردهم المادية والأدبية".

الاستعداد الذاتي للتخطيط

هناك قاعدة مهمة يذكرها الامام الراحل (رحمه الله) عن التخطيط او الاستعداد للتجديد، والتي يمكن ان نطلق عليها قاعدة "الاستعداد الذاتي"، فالإنسان هو اهم وأول لبنة من لبنات التجديد نحو المستقبل، خصوصا وان مراحل التخطيط يجب ان تمر بعمليات مهمة منها "التغيير" و"الإصلاح" و"التجديد" وغيرها حتى يتم البناء بصورته الصحيحة، لذا فإن اصلاح الفرد او الاستعداد لعملية الإصلاح والتغيير والتجديد الذاتي للأفراد ستكون المحور في عملية التخطيط العام الذي سيشمل المجتمع بصورته الاوسع والاشمل، وهنا يشير المرجع الراحل السيد الشيرازي اليها بالقول: "إن التجديد يبدأ من نفس الإنسان، فإنه إذا لم يصلح الإنسان نفسه لا يمكنه إصلاح غيره من بني نوعه أو المحيط المتعلق به، الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والطبيعي وغير ذلك"، خصوصا عندما يتعلق الامر بالأهداف الكبرى او كما يقول (رحمه الله): "تتجلى الأهداف الكبيرة في حاجات المستقبل الواسعة، بينما تظهر الأهداف الصغيرة في حاجات الإنسان المؤقتة، والمستقبل هو البرنامج الذي يضعه الإنسان لتحقيق أهدافه الكبيرة".

المستقبل والتخطيط

ان المجتمعات الاستشارية قائمة على التعقل والتخطيط للمستقبل بعيدا عن الخرافة او التمسك بالأقوال دون الأفعال، هكذا كانت وما زالت وستبقى الطريق الحقيقية التي رسمها الإسلام في الحياة الدنيا والاخرة، "من هنا كان لزاماً على الإنسان أن يكون على استعداد تام لاستقبال الغد والتكيف معه، وربطه بالحاضر والماضي حتى لا ينقطع المستقبل عن الماضي والحاضر"، مع الاعتبار بان "عالمنا اليوم يشهد حركة قوية وسريعة نحو المستقبل في كافة أوجه الحياة، وهذه الحركة توجب تغيراً شديداً، فيجب أن نكيف أنفسنا مع هذا التغيير حتى نمتلك ناصية المستقبل، خصوصاً أن مضمون المستقبل مختلف جذرياً عن حاضرنا"، كما ان "مواكبة المستقبل تتم عبر الريادات ورصد الاحتمالات والتخطيط السليم والقرارات الصائبة التي يتخذها رواد الأمة وعلماؤها في مختلف الاختصاصات في الهندسة والطب والزراعة والصناعة حتى يأتي البناء متكاملاً من حيث تكوينه".

توصيات

وحتى ننجح في عملية التخطيط ينبغي مراعاة عدد من التوصيات المهمة التالية:

1. التخطيط الذي يراعي الواقع ويعتمد على منهاج عملي في توفير متطلبات المجتمع الحقيقية بعيدا عن المثالية والاوهام والخيال.

2. التخطيط يعتمد على المستقبل وهو فعل غير آني، وفي حال أصبح التخطيط كرد فعل على حدث او ازمة ما، سيكون الفشل حتمي بالنسبة لها، فالتخطيط يعتمد على معالجة الجذور وليس النتائج.

3. استعانة مؤسسات الدولة وصناع القرار فيها بالدراسات والأبحاث والمشاريع والأفكار والنظريات المقدمة من المراكز البحثية ومنظمات المجتمع المدني والأكاديميين والخبراء في عملية التخطيط وصياغة الخطط المستقبلية في بناء الدولة والمجتمع.

4. توفير كل متطلبات عملية التخطيط الناجحة بشقيها (المادي والمعنوي)، مع ضرورة اجراء مراجعة دورية لعملية التخطيط من اجل تحديث بياناتها او للتعديل عليها بما يتناسب وتطور الحياة.

5. مراعاة التحول التدريجي نحو التغيير والاصلاح، فالتغيير او عملية الاصلاح السريعين قد يكون حاد وعنيف، وبالتي يوجب ارتدادات أعنف منه وربما تكون له عواقب عكسية، في حين ينجح التخطيط الذي يعتمد على التغيير والإصلاح التدريجي.

الخاتمة

ان العمل من دون تخطيط سيؤدي الى الارتجال والتسرع في اتخاذ القرارات المصيرية التي يعتمد عليها مصير الافراد او المجتمعات وبالتالي حلول الفوضى والضياع بدلا من التنظيم والنجاح، كما ان التخطيط سيوفر المزيد من الوقت والهدر في الأموال مقابل مضاعفه الفرص والاهداف الحقيقية في المستقبل، كما سيمنح التخطيط الحقيقي الوقت الكافي لمواجهة التقلبات والأزمات التي يمكن ان تمر بها الدول من خلال التوقعات المستقبلية وطرق مواجهتها وبالتالي الاستعداد المسبق لأي حالة طارئ ممكنة الحدوث في المستقبل، لذا كان لزاماً على الافراد والمجتمعات والمؤسسات الحكومية الاهتمام بالتخطيط واعتباره اسلوب للحياة الناجحة التي تحقق كل متطلبات المجتمعات الإنسانية من الرفاه الاقتصادي والتقدم العلمي والتطور الفكري.

* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–2020Ⓒ
http://shrsc.com

اضف تعليق