إن هكذا متبنيات غير ناضجة تقف وراءها، أو لنقل وراء أكثر المطالبين بها إرادات فكرية تحاول تعويض إخفاقها الذي كشفته الحقائق العلمية والعقلية، والحل يمكن أن يكون في المتناول فيما لو استخدمنا قاعدة الاعتدال ليس في طرح الآراء فقط، بل والاعتدال في الاصغاء المنصف للآخر المختلف...
لو قُدِّر للألوان أن يكون لها يوم خاص؛ فإنَّ يوم الرابع عشر من شباط سيكون اليوم العالمي للون الأحمر بامتياز؛ لارتباطه بالمناسبة المشهورة (الفالانتاين)، أو مايُعرف في مجتمعاتنا بـ (عيد الحب) حيث تنتشر مظاهر الاحتفال بهذه المناسبة بين فئات المجتمع المختلفة من رجال ونساء، شباب وكهول وأطفال، مع اعتماد رمزية حتى هذه اللحظة لم أعرف دلالتها وهي رمزية الدب الأحمر الذي يتبادله المحبون كهدية فيما بينهم.
وكعادة مجتمعاتنا ــ في الشرق خصوصاً ــ في تحويل مثل هذه المناسبات إلى جدل بين مؤيد ومعارض؛ تشتعل الآراء الانفعالية لدى الطرفين لدرجة التطرف في إطلاق الأحكام تجاه هذه المناسبة، فالمؤيد لها شخص انحلالي يبتعد عن قيم مجتمعه وأخلاقياته من وجهة نظر المخالف، بينما المعارض شخص متخلف لا يحب الانسجام مع المظاهر (الحضارية المتمدنة) من وجهة نظر المخالف أيضاً.
هذا الجدل الذي صارت له مساحات أوسع مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، وخصوصاً (فيسبوك وتويتر) جعلت اللون الأزرق لهذه الوسائل ينافس بقوة اللون الأحمر للفالانتاين وكأننا أمام صراع ألوان تتجاذبه الآراء الانفعالية بتوتر وتعصب غير مبررين لكل فكرة متبناة.
ولو أردنا تحليل ما يصاحب هذه الظاهرة من جدل؛ نجد أن الأمر يقسم إلى قسمين لا ثالث لهما:
الأول: يتمثل في رغبة المعارضين في إصلاح الخطاب الخاص بالذين يؤيدون الانخراط في احتفالات هذه المناسبة، لكن إصلاح الخطاب هنا يأخذ طابعاً انفعالياً تغيب عنه القاعدة المعتدلة :"وجادلهم بالتي هي أحسن".
الثاني: الرغبة القوية لدى المؤيدين في نسف قيم مجتمعاتهم واستبدالها بقيم أخرى يعتقدون أنها تمثل لهم الخلاص الحقيقي من أزماتهم المشتبكة مع عدة عوامل، دون أن يلتفتوا إلى أن مثل هذه المظاهر صار لها حضور ضئيل في المجتمعات الأصلية التي تبنتها، وبذلك سننتقل إلى إشكالية المُقَلِّد والمُقَلَّد بعد أن يتفوق البديل على الأصيل في ظاهرة لافتة ليست الأولى في مجتمعاتنا، ولا تختص بمناسبة (الفالانتاين) فقط، بل سبقها الاحتفال برأس السنة الميلادية ذي الدلالة الدينية للأخوة المسيحيين، والتي اشتعل الجدل فيها كذلك، وكيف أن المسلمين احتفلوا بها، وانخرطوا في آليات الاحتفال بها أكثر من المسيحيين أنفسهم!
وبالنسبة للقسم الأول، أين هي أوجه القصور التي تعيق تبني الخطاب العقلاني والمعتدل، ولماذا لا نتخطى عقبة الآراء الانفعالية الجاهزة، ونتجه لخطاب معاصر وأكثر صلاحية للتداول؟
في الحقيقة لازالت الذهنية التي تتحكم بالخطاب ذهنية تبتعد عن الموازنة بين الطقوسية التعبدية وبين التماهي مع المستجدات من دون إغفال الجذر الديني الذي تقوم عليه شجرة الحياة، وهذا هو سر مأزق الخطاب الذي استفحل فأنتج خطابات بمسميات غير ناضجة سيطرت على الذهنية العامة لفترة، لكنها وبسبب عدم صلاحيتها وصمودها أمام الحقائق العلمية والواقعية لم تصمد وبدأت تتهاوى تباعاً.
كما أن أشكال الصراع السياسي الذي تداخلت فيه عوامل التطرف المذهبي؛ عززت إلى حد بعيد من أزمة الخطاب ، فيكون أقرب للانفعال من التعقل، فهناك الصراع الشيعي السني، والصراع بين الديني واللاديني، ثم الانتقال إلى مرحلة الثورات التي كان لنتائجها سياسياً أثر في انهيار الخطاب وانحداره بين الفعاليات المجتمعية التي أثبتت بانفعالاتها أنها قابلة لكل أشكال المشاريع التي توجهها، ولنكن صريحين أكثر ونقول بمرارة شديدة أنها مجتمعات قابلة للاستبداد والسيطرة على الذهن وتوجيهه والتحكم به كيف شاءت إرادة المتحكم وهو غالباً الآخر البعيد (الغرب) الذي صرنا ننظر له قشرياً على أنه رائد الموضة والأزياء والأشياء التي تعد جزءاً من متطلبات الحياة، لكنها صارت كل شيء عندنا.
أما بالنسبة للقسم الثاني، والمتعلق بالذين يريدون استبدال القيم والأخلاق والتخلي عنها بشكل أشبه بالكلي، وتعويضها بتلك المظاهر الجزئية. لكن هل ينفع استبدال اللغة مثلاً؟ أو استبدال العقيدة؟
إن هكذا متبنيات غير ناضجة تقف وراءها، أو لنقل وراء أكثر المطالبين بها إرادات فكرية تحاول تعويض إخفاقها الذي كشفته الحقائق العلمية والعقلية، وذلك من خلال النفاذ من ثقب الانفعالات التي توفرها مناسبات توفر الجدل الانفعالي كمناسبة الفالانتاين التي نحن بصددها.
لكن هل نستسلم؟ بالطبع لا، والحل يمكن أن يكون في المتناول فيما لو استخدمنا قاعدة الاعتدال ليس في طرح الآراء فقط، بل والاعتدال في الاصغاء المنصف للآخر المختلف، ومن ثم مناقشته بعقلانية حتى لو كان منفعلاً، فالهدوء المقابل يساعد على استيعاب الانفعال والمنفعل معاً.
اضف تعليق