ثمة إصرار غريب يتمثل بزيادة مساحة الفوضى عند الأجيال الحالية والقادمة، وذلك من خلال انتهاج تعبئة ذهنية، تؤكد على ضرورة تأجيج الغرائز بعدة أشكال. وكل هذه المحاولات من أجل إنعاش صناعة الفوضى المتمثلة بصنع الأخلاق الملائمة لمقاسات التحديث العولمي، وإذا كانت صناعة الفوضى في السابق قائمة على.
ثمة إصرار غريب يتمثل بزيادة مساحة الفوضى عند الأجيال الحالية والقادمة، وذلك من خلال انتهاج تعبئة ذهنية، تؤكد على ضرورة تأجيج الغرائز بعدة أشكال. وكل هذه المحاولات من أجل إنعاش صناعة الفوضى المتمثلة بصنع الأخلاق الملائمة لمقاسات التحديث العولمي.
وإذا كانت صناعة الفوضى في السابق قائمة على مبدأ هيمنة العقل على كل القيم الثابتة، والتي قال بها أصحاب نظرية (الفكر التركيبي)، والذين كانوا يركزون على أهمية الازدواجية معتقدين أنها محفز هائل للتقدم؛ فإنَّ صورة أخرى للهيمنة تتبلور عند صانعي الفوضى، فبدلاً من هيمنة العقل على حساب القيم، تأتي الغريزة لتنسف العقل والقيم معاً من خلال تأجيجها تمهيداً لهيمنتها، وهذا أخطر أنواع الفوضى.
وأهم أدوات هذه الصناعة تتحقق من خلال تقليص دور الفطرة الإنسانية تمهيداً لمحوها؛ لأن الفطرة ترتبط بضوابط تؤكد على انتهاج الصحيح من التعامل، ونبذ الخاطىء منه، ما يعني أن الفطرة تعمل على إحداث توازن يشكل مصدر إزعاج لمن يريد للنفس البشرية السباحة في فوضوية ومتاهة.
والتوازن الذي تقدمه الفطرة يأتي من خلال توق النفس البشرية للدين كقيمة تُكملُ هذا التوازن، جاء في نهج البلاغة : " فَبَعَثَ فِيهمْ رُسُلَهُ، وَوَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِياءَهُ، لِيَسْتَأْدُوهُمْ ميثاقَ فطرته" وفي هذا النص تتجلى العلاقة الجوهرية بين الدين ومن يقوم بتبليغ رسالاته السامية، وبين الفطرة البشرية التواقة له ولقيمته. لكل ذلك كان لابد لمن يريد أن يصنع الفوضى أن يقدم البدائل التي تسعى لتقليص دور هذه الفطرة، ثم تمهد الطريق لإحلال غريزة الإشباع المنفلتة من كل الضوابط محلها، على أن يكون التمركز الغريزي متخذاً أشكالاً متعددة، وبذلك ينحسر دور الفطرة عند النفس البشرية الضعيفة القابلة للخداع، وهي نفس قليلة المناعة يسهل اختراقها عبر برمجة الانفصال كلياً عن الاخلاق من خلال مبادىء ارتكزت على أن يعتمد الإنسان على نفسه في كل الأمور، وهذا المبدأ معناه ضرب الفطرة الإيمانية بالغيب تمهيداً لإيقاع الإنسان في شراك الماديات التي ستجعل منه كائناً دنيوياً ضارباً بعرض الجدار مفهوم الآخرة، حيث تتركز في ذهنيته القلقة والمضطربة مقولة أن الدنيا هي خلاصة حقيقة الإنسان وسر وجوده، لذلك لابد عليه أن يجتهد في التقدم من أجل الدنيا، لا من أجل ما يعتقدون أنها خرافات، ذلك أن الغريزة الفوضوية هي الحقيقة التي يراد للفرد أن يؤمن بها.
وتمثل الميديا وسيلة ناعمة لتحقيق صناعة الفوضى، خصوصاً بعد أن استعمرت أهم البنى المتمثلة بالعائلة. فالأسرة وإن كانت تعيش في بيت واحد؛ إلا أنها شبه منفصلة عن نفسها، حتى مع تباين أعمار أفرادها، أو اهتماماتهم، فقد غابت أواصر الترابط الأسري بفعل الوسائل الاتصالية التي أحكمت قبضتها على كافة اهتمامات أفراد العائلة، فالأب منشغل باهتماماته عبر هذه الوسائل، وكذا بالنسبة للأم، الأمر الذي يجعل الأولاد ــ وهم الفئة الأكثر تعرضاً لخطر الفوضى ــ أسيري البرامج التي أعدت خصيصاً لأعمارهم، وهي برامج تركز على ثنائية الجنس والعنف، وهذه الثنائية تعزز الغريزة التي تستلب الفرد الإنساني من كيانه، وتجعله شبه مدمن على مواقع تعمل على برمجته وكأنه آلة تتحرك وتتوقف بإيعازات.
وبعد فترة ليست بالطويلة؛ يجد الأولاد أنفسهم وقد دخلوا في شرنقة من الاكتئاب يصعب الخروج منها، وقد تسوء ــ وساءت فعلاً ــ بعض الحالات لدرجة مخيفة من خلال حالات الانتحار التي بدأت تفرض نفسها كثقافة دخيلة للأسف الشديد على مجتمعاتنا، وحين يتم البحث في أسباب إنهاء الشاب أو الشابة لمسيرة الحياة بهذه المجانية؛ نجد أن صناعة الفوضى عبر تنمية الحس الغرائزي هي السبب الرئيس الذي لا نريد له أن يستفحل ويؤدي إلى مزيد من الخسارات المؤلمة.
ورغم واقعية صناعة الفوضى التي لا سبيل لإنكارها، إلا أن الحل أو المعالجة ليس بالشيء المستحيل، وأهم شيء ينبغي التفكير به للوقوف بوجه الفوضى وصناعتها؛ هو استثمار الطاقات الشبابية بالشكل الأمثل، من قبل المؤسسات المختصة، سواء كانت حكومية، أو منظمات مجتمع مدني، وينبغي التثقيف بشأن مسببات الفوضى التي تختزل عادة بالحروب العبثية، من دون الالتفات إلى أن وسائل تدمير الشعوب الممنهجة أخذت طابعاً جديداً يتسم بالهيمنة الذهنية، واختيار فئات عمرية يسهل اختراقها، وتمرير المخططات من خلالها، وهي الهيمنة التي تعمل على تذويب الطاقات الشبابية في المنطق المادي الذي يراد إعادته بعد أن فقد قدرته أمام حقائق الحياة.
اضف تعليق