هل تأصلت الديموقراطية، وصارت فاعلاً ثقافياً مجتمعياً خلال التجارب الانتخابية السابقة، والتي تداخلت مع مفهوم التعددية بشكله السياسي؟، الواقع يحكي عن مخاضات صعبة وصلت إلى حد الاستحالة؛ وذلك لأن فهم التعددية كان سلبياً، بل أفرز نوعاً من التشاحن المكوناتي المجتمعي متأثراً بتلبد الغيوم السياسية...
الوعي بالفكرة وفهمها لابد أن يتجسد إلى فعل حقيقي يعزز الرغبة بالتغيير، وإدراك ضرورة التداخل الإيجابي بين الأفكار وعدم الفصل بينها ثم إذا حدث ما لا يحمد عقباه بدأنا بممارسة الندم وهدر الطاقات، فمعرفة المشكلة وفهمها يمثل نصف أو أكثر من نصف الطريق لحلها أو تغييرها، وقبل ذلك يلزم توفر القناعة النفسية بالتغيير والإيمان به، وإلا فإن التاريخ يحدثنا عبر حوادث كثيرة عن ثورات وسلوكيات كانت تريد التغيير، لكن الفشل وعدم الاستمرار كان النتيجة الحتمية لها؛ لعدم توفر القناعة التامة او الإيمان الحقيقي بالفعل التغييرين وربما كان هاجس التغيير فيها لا يستند لمعرفة كافية، أو لأن ممارس الفعل إنما مارسه لطموحات شخصية لا علاقة لها بخدمة الناس. في الوضع الحالي؛ نجد أن من أهم الأفكار التي يجب التركيز على الوعي بها هي فكرة التعددية؛ لما لها من أهمية كبيرة في رسم الملامح المستقبلية للمجتمعات المتعددة على صعيد الأعراق والمذاهب.
ثقافة التعددية فيما لو فُهِمت بالطريقة الصحيحة؛ ستفضي بالتأكيد إلى حالة من الاستقرار الاجتماعي، حتى وإن صادفتها مطبات وعثرات، خصوصاً لو حدث تداخل بين التعدد والسلوك السياسي. إن الترابط بين مفهوم التعددية، والفعل السياسي؛ يتيح حرية الحركة من خلال المسميات المتعددة كالأحزاب والمنظمات المدنية المستقلة، الأمر الذي يعني مرونة في إبداء الآراء تجاه القضايا التي تمس الشأن العام. ومع هذا من شأنه أن يشكل ضغطاً إيجابياً على صنع القرار، ومع مزيد من التفاهم يمكن الوصول إلى صيغ تضمن حقوق المواطنين. والفهم الصحيح للتعددية من زاوية فكرية ومجتمعية؛ سيقوِّض ــ ولو بعد حين ــ حالة التفرد السلطوي سواء كان التفرد عن طريق الأشخاص، أو عن طريق الأحزاب.
ولو تتبعنا التجربة العراقية بعد 2003؛ سنجد أن هذا التداخل الذي نشير إليه قد أصبح أمراً واقعاً، وتنامى وجوده في الواقع العراقي مع كل ممارسة انتخابات ترسخ التوجه الحقيقي نحو الديموقراطية، والسعي الحثيث لتأصيل مفاهيمها مجتمعياً، والعمل على جعلها فاعلاً ثقافياً في الحياة المجتمعية.
لكن السؤال الأبرز: هل تأصلت الديموقراطية، وصارت فاعلاً ثقافياً مجتمعياً خلال التجارب الانتخابية السابقة، والتي تداخلت مع مفهوم التعددية بشكله السياسي؟
الواقع يحكي عن مخاضات صعبة وصلت إلى حد الاستحالة؛ وذلك لأن فهم التعددية كان سلبياً، بل أفرز نوعاً من التشاحن المكوناتي المجتمعي متأثراً بتلبد الغيوم السياسية، الأمر الذي جعل من عملية الولادة الديموقراطية صعبة للغاية، لكنها لم تكن بالمستحيلة؛ لأن جزءاً إيجابياً أضاء على استحياء في كل تلك المخاضات العسيرة سياسياً، ويتمثل بسلاسة تبادل السلطة وسلميته حتى مع وجود الخلافات والاعتراضات على مفاهيم من قبيل الاستحقاقات الانتخابية وغيرها من العبارات التي حفل بها المشهد السياسي. هذا الجزء المضيء جعل المتابع المتجرد يشعر بنسب معينة من التفاؤل في فهم التعددية، آملاً بزيادة النسبة بعد كل تجربة.
اليوم نشهد تبادلاً سلمياً جديداً للسلطة، ونريد أن نبتعد بقراءة هذا التبادل عن شكله السياسي، لنحاول قراءته من زاوية مجتمعية، متكئين على فكرة التعددية وتداخلها التي تحدثنا عنها. فقد لاحظنا أن عملية تسمية الرئاسات قد لاقت اهتماماً ملحوظاً من قبل المواطنين أكثر من التجارب السابقة، وهذا ماعكسته التدوينات في وسائل التواصل الاجتماعي.
ومن الطبيعي أن تنقسم الآراء بين متفائل بهذا الالتزام النادر بالتوقيتات القانونية لتسمية الرئاسات، وبين متحفظ أو صامت ينتظر النتائج؛ لكن اللافت في الامر، وهو المتعلق بصلب موضوعنا هو أن المتفائلين أو المتحفظين لاينتمون إلى لون معين من ألوان الهويات المكوناتية العراقية كما كان سابقاً مثلاً حين تنحاز هذه الفئة إلى السياسي فلان الذي يمثلها مذهبياً أو قومياً، وتنحاز أخرى إلى ذاك الذي يمثلها بنفس الطريقة.
اليوم نشاهد أن ردود الأفعال أو الآراء تجاه الحدث السياسي؛ تنطلق من رؤية عامة أساسها قيمة المواطنة المنطلقة أصلاً من إيجابية التعددية، وهذا كفيل بأن يجعلنا متفائلين بمستقبل التعددية المجتمعية فيما لو تمت قراءتها بشكلها الصحيح والمنسجم مع الحياة.
ولا يمكن أن تترسخ المواطنة كمفهوم في ذهنية الفرد، ومن ثم تتحول إلى سلوك فعلي على أرض الواقع، ما لم يتم الالتفات إلى تعزيز التعددية الفكرية مشروطةً بوعاء يجمع ثنائية الفرد/ المجتمع، وأن لا يسيطر فكر أحادي ويفرض هيمنته المطلقة على طبيعة العلاقة بين الفرد والمجتمع؛ لأن هذه العلاقة تمثل الوعاء الذي سيحتوي المواطنة التي ستتفرع منها المسميات المرتبطة بها والتي تتشكل منها القيم المجتمعية المختلفة، بمعنى أن المواطنة هي الوعاء الثقافي لشكل هذه العلاقة.
ينبغي للعلاقة بين الفرد ومجتمعه ان تقوم على هوية اجتماعية تقدم للأفراد سبل معرفة توجهاتهم ووجهات نظرهم، ومع تعدد الهويات؛ تتعدد وجهات النظر والرؤى، وتنشأ بينهما علاقة تكاملية؛ لأنها جزء لا يتجزأ من كياننا ووجودنا، وتمثل معانياً متعددة رائدها التوازن في العلاقة بين هوية وأخرى؛ للوصول إلى أعلى مراحل التعايش والاعتدال في حياة متماسكة.
اضف تعليق