q
شكلت ظاهرة الفساد المالي والإداري أيقونة مخيفة تشي بتصدع أو ربما انهيار منظومات القيم الأخلاقية والمجتمعية حتى رغم تباينه واختلافه من مكان لآخر، لكنه يتحد اتجاه مصادرة الاستحقاقات الإنسانية حين ينشئ له مافيات فئوية وحزبية تفتح المجال أمام تنافس غير مشروع قبل أن يتحول إلى ثقافة وسلوك ينتشران كالنار في الهشيم...

شكلت ظاهرة الفساد المالي والإداري أيقونة مخيفة تشي بتصدع أو ربما انهيار منظومات القيم الأخلاقية والمجتمعية حتى رغم تباينه واختلافه من مكان لآخر، لكنه يتحد اتجاه مصادرة الاستحقاقات الإنسانية حين ينشئ له مافيات فئوية وحزبية تفتح المجال أمام تنافس غير مشروع قبل أن يتحول إلى ثقافة وسلوك ينتشران كالنار في الهشيم ويجعل الحديث عنه وعن آثاره ضرباً من الترف النقدي والتنظيري مالم ترافق عملية الكتابة والبحث جهود حقيقية تشخص المسببات وتعمل على وضع الحلول والمعالجات لاستئصاله.

وفي كل المراحل الزمنية كان الفساد سبباً لنشاط الحركات المعارضة سياسياً أو نشوط الحركات الاحتجاجية التي تأخذ طابع التمرد المدعوم على مستوى القطعات العسكرية ضد الحكومات التي شيدت أمجادها وإمبراطورياتها على حساب استحقاقات الأفراد؛ لذلك نلحظ أن هذه الحكومات تلجأ دائماً إلى تحصين نفسها عبر الإيغال بنهب الخيرات مستبقة بذلك أية حركات احتجاجية قد تطيح بها فيكون فسادها - عند هذه النقطة - مضاعفاً .

والكثير من الدراسات المختصة أولت الفساد اهتماماً كبيراً وناقشته من الجوانب القانونية والاقتصادية والسياسية أجمعت على أنه ظاهرة مستمرة لا يكاد يخلو مجتمع أو نظام من وجودها وآثارها.

ولعل أهم مراحل تطور الفساد هو الخلط بين القيم الأخلاقية والأنظمة السياسية بحيث تسود النظرة على كل من يخالف هذه الأنظمة بأنه خارج على السائد الاجتماعي المتبع، وقد أسس لهذا الخلط بعض الاتجاهات الدينية المنحرفة عن المسار الصحيح، فضلاً عن بعض الأنظمة التي تتخذ العلمنة شكلاً لها.

حدد علماء الاجتماع الفساد بانتهاك القواعد المتعلقة بالسلوك القويم، هذا الانتهاك في حالة حصوله سيؤدي إلى حالة تتفسخ فيها كل القيم والأعراف بسبب غياب الاتزان والاستقامة للشخص الذي ينتهك هذه القواعد، أو الشخص الذي يخرق القوانين - الموظف مثلاً - ويستبدلها بآليات عائلية أو عشائرية أو حزبية جاعلاً من الموقع الوظيفي مطية يركبها لأجل المتاجرة الفاسدة وهي (رابحة) بالنسبة له ولنمط تفكيره على مستوى الأفق الزمني المرحلي . ومن الطبيعي أن تكون هناك ردات فعل ستزيد من تعقيدات الوضع الاجتماعي حيث إشاعة الجريمة والتطرف الفكري وغياب المهنية والتلكؤ في أداء المهام الوظيفية وغيرها من أشكال تشويه البنية المغذية للاحتقان المجتمعي.

لابديل عن الثقافة في مواجهة انتشار الفساد وممارساته التي تنخر البنية المجتمعية. ولكن أين هي الثقافة؟ وماهي معاييرها في هذه المواجهة؟

تعاني ثقافة الحياة اليوم من خطر يهدد عناصرها الرئيسة، ما يعني أن الإنسان بات في عزلة تحول دون إحساسه بالمعنى والجمال وهما من أبرز عناصرها، خصوصاً بالمفهوم المعاصر والحديث للثقافة والذي يجعل الثقافة ترتبط من مفهوم الكياسة، فتكون مرادفة لمفهوم الحضارة. ولابد من ملاحقة مسببات انحدار الفعل الثقافي بحيث تكون من أولويات الوظيفة الإنسانية في زمننا الراهن، ومن دون أي تفريق تنظيري يشطر الثقافة لنخبوية نوعية، وشعبية اجتماعية، فالنوعان يرتبطان - أولاً وأخيراً - بالإنسان، ولكل دلالاته وخصائصه التي تشكل عنصري المعنى والجمال معاً بصورة أو بأخرى.

واقعنا اليوم يشي بأننا إزاء ثقافة متدنّية رائدها فقدان المعايير وسوء الذوق وانعدام الإحساس بالحياة، وكأن الإنسان يعيش هذا الفقدان المعياري وظيفياً وميكانيكياً بشكل ممل، ويغيب في داخله هاجس احترامه لذاته ولقيمته الوجودية الكبرى، فيصير السوء شائعاً وطبيعياً، والصحيح الجمالي بدعة واغتراباً، وهنا تكمن أشد حالات النكوص الحضاري؛ لأن الذي يهدد الثقافة اليوم هو ذلك التعاطي الغريب مع الزمن بآليات المعايير المفقودة التي تنتج لنا السيء من الآداب والفنون والنظريات الفلسفية.

والأخطر من ذلك هو أن يتحول فقدان المعايير إلى صناعة ممنهجة تصدر بضاعتها، فتنتشر في الأوساط المجتمعية انتشار النار في الهشيم حسب منطق (الموضة)، خصوصاً مع توفر السلطة الداعمة لهذه الصناعة بدراية أو بدونها لتكون تحصيلاً حاصلاً يرسخ القبول بـ (نظرية المؤامرة) التي كثيرا ما نسمع بعدم الاعتراف بوجودها وهي - أمام هذه المعطيات - تبدو واقعية بنسبة كبيرة ومخيفة.

ومن الطبيعي أن يحظى انعدام المعايير بدعم سلطوي؛ لأنه سيعزز من فرص البقاء على رأس الهرم السلطوي والتمتع بالامتيازات التي توفرها السلطة عبر تنميط المجتمع وتدجينه، فتختفي محفزات الرغبة بالحياة عند البسطاء المغلوبين على أمرهم.

ومع تنامي غياب المعيار الثقافي، تتجه المفاهيم إلى ضبابية أكبر، وهو ما يستدعي العمل على تهذيب ثقافي يبدأ من استعادة المعايير المفقودة، ثم تأصيلها بما يتناسب والحلول المقترحة للمشكلات المجتمعية.

ومع استعادة المعيار نبدأ بالخطوة التالية وهي الأهم، والتي تتمثل بترسيخ الحوار الحضاري، وأن نضع له سلالم رئيسة تبدأ من النظام التعليمي من خلال تنمية القابليات الذهنية، وتشجيع الاستعداد على الانفتاح على كل ما يسهم برفد المعرفة بالجديد النابض، فضلاً عن دعم الجهود التعليمية بوضع خطط واستراتيجيات من قبل الدولة، تعمل على تحقيقها عبر مؤسساتها الفاعلة سياسياً واقتصادياً وثقافياً، وتشرع لها القوانين، كل هذه الأشياء تنتج تقارباً حضارياً تؤدي بنا إلى ثقافة بمعايير تقف على أرضية صلبة للحضور، متصالحة مع حضورها بعيداً عن محنة الفقدان.

ليس هذا الكلام ضرباً من الخيال الشاعري؛ لأننا نستطيع في تحصلنا على الإرادة والتفاؤل، يمكن أن نمضي قدماً في عملية إصلاح مانخره الفساد في قيمنا وأخلاقنا.

اضف تعليق