q
إن تعطيل العمل بالحرية وفق سياقاتها العملية الصحيحة في الدولة بغض النظر عن شكل نظامها؛ سيؤدي إلى خلق حالة من الاستبداد التي قد تتطور سلبياً بمرور الوقت لتصبح ممارسة وظيفية بين رئيس ومرؤوس، وعند ذاك لانلومنَّ إلا أنفسنا حين تتسع مساحة الفوضى المجتمعية، وتترسخ ظاهرة استلاب الأفراد، وانقسامهم حول ما يجري في محيطهم الوطني...

تم استدعاؤه لتوقيع التعهد الخطي الذي يقضي بعدم الحديث في الشؤون السياسية، وإعطاء الرأي في السياسيين والمسؤولين الذين تحوم على سلوكهم ومسيرتهم شبهات الفساد، واستغلال المناصب، حتى وإن كان حديثه يمثل وجهة نظر شخصية يتم طرحها في صفحته الخاصة على وسائل التواصل الاجتماعي. وبمجرد رفضه التوقيع؛ لأنه معترض أصلاً على أصل الممارسة التي تعود بالذاكرة لحقبة قمع الرأي؛ تم فصله من الوظيفة التي يشغلها في المؤسسة التي ينبغي أنها تمثل الدولة لا الحكومة الرسمية، أو الحزب الحاكم.

أين نحن؟ وما الذي يجري في هذا الصيف الساخن جواً وشعوراً؟ هل وصل الأمر بدولة يفترض أنها أزالت شبح الديكتاتورية من ذهنيتها إلى أن تقطع رزق موظف فيها لكونه جاهر برأيه في قضية هي الحقيقة قضية رأي عام؟

يبدو أن مفهوم الحرية بدأ يُفرغ من محتواه في دولة ما بعد 2003 الخارجة أصلاً من محنة تغييب الحرية بآلات القمع السلطوي. بل أن حرية التعبير عن الرأي في المؤسسات التي تمثل الدولة؛ صارت محكومة بقضية الإملاءات الحزبية والإيديولوجية. والخوف كل الخوف أن تكون هذه الإملاءات جسراً لعبور الوعي المؤدلج بينما يتم توقيف الوعي المتحرر في زنزانة الخوف على (رزق العيال)، وهذا يعني أننا إزاء حرية شكلية تخيط ثوبها الأدلجة، وما على أبناء الشعب إلا ارتداء الثوب من دون الحديث عن ضيق مقاسه.

وحتى لو أردنا الحديث عن ضيق هذا المقاس فحديثنا رمزي قابل للتأويل الذي يرضي الجهات التي فرضت المقاس، وهنا نكون أمام إشكالية أعقد من عقدة تعطيل العمل بالحرية لصالح العمل بحرية الرؤية السلطوية.

وإذا كان هذا الموظف المفصول يمثل توجهاً ثقافياً وإعلامياً؛ فإننا سنضطر للحديث عن قضية تجزئة الحرية بين حرية النخب في طرح رؤاها الثقافية أو ربما الأدبية، وبين رؤاهم في القضايا التي تمس جوهر المشكلات المجتمعية، لدرجة القناعة بأن تجزئة مفهوم الحرية صار مشروعاً لتعطيل العمل بالحرية، بآليات يُعتقد أنها آليات تتجسد في حرية انتشار بعض المظاهر التي تُعرف عند شرائح مجتمعية واسعة بأنها مظاهر حضارية ومدنية. وبذلك اتسعت مساحة الخوف من أن رافعي شعارات نهاية القمع؛ يعيدون القمع بتدويره وإعادة إنتاجه، ثم تقديمه على طبق متنوع الأصناف، ما إن يتذوقه المجتمع حتى يصاب بتخمة السكونية التي تعطل السؤال عن الحرية، أو الأصح السؤال عن الوقت الذي يتم فيه العمل بها، فنكون بصدد حرية العمل لا الشعارات الاستهلاكية.

حرية العمل في الإرث الفكري الإسلامي

وطالما أن التجربة العراقية بعد 2003 اتسعت فيها المساحة الإسلامية؛ لابد من التساؤل عن أسباب عدم استثمار الأحزاب الإسلامية للفكر الإسلامي الضخم، والذي يحث على الحرية التي يربطها بمفاهيم حقوق الإنسان، والعدالة الاجتماعية، ومن دون هذين المفهومين فإن الحرية تكون مجتزأة ومفرغة من محتواها.

وقد يتجسد مفهوم الحرية أكثر في علاقة الحاكم بالمحكومين من خلال عهد الإمام علي (ع) لمالك الأشتر حين ولاه مصر فيقول: "وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فإنك فوقهم، ووالي الأمر عليك فوقك".

وفي هذا معنى واضح لقضية استشعار الحاكم للرحمة بالمحكومين، وأن لا يستغل سلطاته لقمعهم حتى وإن كانوا مخالفين له رأياً ومعتقداً، بل لو أن المحكومين أخطأوا في جزئية يمكن التسامح فيها فلا يتردد الحاكم في العفو والصفح.

كما أن الحرية ـ عملاً ـ تلزم على الحاكم أن يكون وسطياً، وأن يهتم بإرضاء شعبه الذي يحكمه حتى وإن تسبب إرضاء الشعب بتبرم وضجر الحاشية المقربة، فالإمام علي (ع) في عهده لمالك الأشتر يحذره من البطانة، ويشدد على قضية رضى العامة من الناس بقوله : "وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمها في العدل وأجمعها لرضى الرعية، فإن سخط العامة يجحف برضى الخاصة، وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة. وليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مؤونة في الرخاء، وأقل معونة له في البلاء، وأكره للإنصاف، وأسأل بالإلحاف، وأقل شكرا عند الاعطاء، وأبطأ عذرا عند المنع، وأضعف صبرا عند ملمات الدهر، من أهل الخاصة. وإنما عماد الدين وجماع المسلمين والعدة للأعداء العامة من الأمة، فليكن صغوك لهم وميلك معهم".

أخيراً وليس آخراً؛ إن تعطيل العمل بالحرية وفق سياقاتها العملية الصحيحة في الدولة بغض النظر عن شكل نظامها؛ سيؤدي إلى خلق حالة من الاستبداد التي قد تتطور سلبياً بمرور الوقت لتصبح ممارسة وظيفية بين رئيس ومرؤوس، وعند ذاك لانلومنَّ إلا أنفسنا حين تتسع مساحة الفوضى المجتمعية، وتترسخ ظاهرة استلاب الأفراد، وانقسامهم حول ما يجري في محيطهم الوطني.

........................................................................................
* الآراء الواردة بالمقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق