q
تغلب على الذهنية الشرقية حالة ردود الأفعال الانفعالية عند التعاطي مع القضايا المختلفة وخصوصاً القضايا التي تمس المصالح العليا للبلدان. هذه الانفعالات تؤكد بين فترة وأخرى حالة النكوص الحضاري وعدم فهمنا المؤسف لحقيقة مايجري من صراعات على المستوى الإقليمي والدولي، سواء ارتبطت هذه الصراعات بالقضايا السياسية أو بالقضايا التي تمس الجوهر الفكري، وهنا يكون الصراع أخطر وأشد...

تغلب على الذهنية الشرقية حالة ردود الأفعال الانفعالية عند التعاطي مع القضايا المختلفة وخصوصاً القضايا التي تمس المصالح العليا للبلدان. هذه الانفعالات تؤكد بين فترة وأخرى حالة النكوص الحضاري وعدم فهمنا المؤسف لحقيقة مايجري من صراعات على المستوى الإقليمي والدولي، سواء ارتبطت هذه الصراعات بالقضايا السياسية أو بالقضايا التي تمس الجوهر الفكري، وهنا يكون الصراع أخطر وأشد.

في الواقع السياسي، تبرز اليوم قضية (سد أليسو) الذي تريد تركيا بناءه، الأمر الذي يعني الإضرار بحصة العراق المائية. وحذرت تقارير من أن هذا السد سيعرض مياه نهر دجلة للانحسار، أو التلاشي.

الأكيد طبعاً أن الموضوع ذو بعد سياسي، والحديث عنه ليس جديداً، مثلما أن ردات الفعل الانفعالية جماهيرياً ليست بالشيء الجديد، حيث دعت فعاليات مجتمعية في وسائل الاعلام، ووسائل التواصل الاجتماعي إلى مقاطعة البضائع التركية بهدف الضغط اقتصادياً على الدولة التركية التي تعتزم إنشاء السد الذي سيغيِّب نهر دجلة.

ولكن متى نجحت مثل هذه الخيارات في إيقاف المشاريع التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالمصالح السياسية، والصراعات التي تتداخل فيها العوامل القومية والمذهبية سياسياً؟

أليس الأجدى الضغط على حكوماتنا التي تعاقبت منذ الحديث القديم عن هذا المشروع، والذي يعود لأيام النظام السابق، من أجل إيجاد الحلول الجذرية والواقعية لهذه المشكلة بما ينسجم مع مصالح الدولتين الجارتين؟ وهل نحن واقعيون أو جادون فعلاً في مقاطعة بضائع تجارية لادخل لها في التصارع السياسي المحموم، وهي التي تشكل نسبة تصل إلى أكثر من 60% من حاجاتنا اليومية؟

ذاكرة وحدث فكري

لو عدنا بذاكرتنا قليلاً إلى الوراء؛ لوجدنا حدثاً مشابهاً، لكنه أكثر سخونة من الحدث المائي بين العراق وتركيا سياسياً. هذا الحدث مثل حالة أكثر سخونة من حالة الخلاف السياسي؛ لأنه ارتبط بعقائد ملايين من الناس. والحدث الذي نعنيه هو الرسومات الكاريكاتيرية التي أساءت لشخص الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) من قبل رسام دانماركي، ثم حدث مشابه يقصد ذات الإساءة، لكنه كان عبارة عن أفلام قصيرة تسيء للذات الشريفة لرسولنا الكريم.

ردود أفعال المسلمين تجاه هذه الإساءات المستهجنة وصلت لذروتها، طبعاً مع إيجاد بعض العذر؛ كونها مرتبطة بعقيدة وهو ما يؤكد التأثير الكبير للعقائد على حياة البشر خلافاً لما تدعيه المدارس الفكرية المناهضة للدين والتدين وهذا ليس موضوعنا بطبيعة الحال.

المهم أن ردود الأفعال الإسلامية جاءت بإلحاق الأضرار بسفارات الدانمارك في البلدان الإسلامية، مع بعض السلوكيات العنفية تجاه موظفي تلك السفارات الذين لاذنب لهم وفق القاعدة القرآنية (ولاتزرُ وازرةٌ وزر أخرى)، إلى رست سفينة ردود الأفعال عند ميناء مقاطعة البضائع الدانماركية. لكن المسلمين لم يفكروا أن دفاعهم عن نبيهم بطريقة مقاطعة القميص أو الشوكولا؛ إنما هو دفاع مضحك ويجعل الآخر غير المسلم ينظر بازدراء لأمة تدافع عن رمز معتقدها الديني بهذه الطريقة من السذاجة. وليت المسلمين انتبهوا لكلام مخرج الفيلم المسيء حين اعترف بأنه أخذ مادة فيلمه من بعض الروايات الموجودة في (صحاح) المسلمين التي يعتبرونها من حيث الأهمية في المرتبة الثانية بعد كتابهم الرئيس القرآن الكريم. فلو كنا بدلاً مقاطعة البضائع المرتبطة بمعيشة الناس على مختلف أديانهم قد عدنا لتراثنا الذي شهد انحرافات كثيرة وتزييف ممنهج ووضعناه على طاولة النقد؛ لكنا أسهمنا في تنقيته وتقديمه للمجتمعات الأخرى المخالفة نقياً وإنسانياً يعكس روح التسامح والحث على مكارم الأخلاق، وبالتالي نقطع أية محاولات مشبوهة لإلحاق الضرر بحقيقة هذا المعتقد وفحواه المضيء والناصع.

نفس هذا العلاج يمكن أن ننتبه له من خلال أزمتنا المائية مع تركيا حتى مع اختلاف الهدف والظرف. فبدلاً من مقاطعة البضائع، يمكن الدفع من خلال الفعاليات الثقافية والمجتمعية باتجاه تجديد الاتفاقيات من خلال حكومة لا تخضع لأجندات تُغَيِّب مصلحة الدولة من أجل مصالح فئوية وحزبية يغلب عليها الطابع المذهبي الضيق الأفق.

النخب السياسية اليوم تترك للشعب حرية إصدار ردود الفعل المنفعلة والخالية من حل جوهري وحقيقي، بينما تنشغل في ترميم خلافاتها الانتخابية؛ وتُسَرّع من وتيرة التحالفات على أساس المصالح الفئوية طبعاً، بعيداً عن المصلحة العليا التي يفترض أن يكون لها القدح المعلى؛ كونها تمثل رمزية الدولة. النخب السياسية اليوم مهتمة بشؤونها الانتخابية؛ من أجل الوصول لأية صيغة تضمن فكرة المحاصصة سيئة الصيت، وبأي صورة كانت، وتحت أي عنوان، الأمر الذي يمكنها من تعزيز مكتسباتها على الصعيد الحزبي والشخصي منذ التغيير الذي حصل بعد 2003 وحتى اليوم.

وفي حقيقة الأمر، نعتقد أن ردود أفعالنا هذه التي نطالب فيها بمقاطعة البضائع التركية تمنح فرقاء المصالح السياسية متسعاً من الراحة والتفكير بتعزيز النفوذ، خصوصاً لو كانت المطالبات تأتي من منظمات ومؤسسات مدنية هدفها الرئيس ينبغي أن يكون تنبيه الحكومة تجاه السلبيات والإخفاقات، وليس التماهي مع مطالب البسطاء من الجماهير. لكن أين لنا منظمات ومؤسسات فاعلة ومستقلة بعيداً عن سطوة الأحزاب، حتى نتحدث عن رقابة حقيقية؟

اضف تعليق