q
تعد التعبئة الذهنية أخطر الأساليب النفسية في تخدير الشعوب وإلهائها عن الخسارات المتلاحقة لهذه الأنظمة في إشعال حروب لا فائدة من إشعالها وزج الناس الأبرياء حطباً لنارها من أجل إدامة الشهوة التسلطية، هذا المبرر التخديري يتضح جلياً في الهوس الانفتاحي وفق ذهنية ليبرالية.

كل نظام يحاول التشبث بالسلطة يراهن على عدة نقاط تساعده في محاولات بقائه المستمرة في السلطة، ومنها إبقاء الذهنية العامة حبيسة التعبئة الاعلامية الموجهة بفردية قاتمة.

واسلوب التعبئة الذهنية هذا يأخذ مسارات متعددة تصب في هدف واحد، حيث تأخذ المساحة الفكرية الكبيرة للإنسان، وتهيمن عليه وتوجهه حسب أهوائها، وكأنه في حالة تنويم مغناطيسي.

والحقيقة أن أسلوب التعبئة الذهنية أسلوب مخملي هادىء وفعال، بحيث ينجح مع كل التوجهات العامة، ومع كل الأنظمة سواء كانت الديكتاتورية منها، أو تلك التي تنتهج (الديموقراطية) بهاجس تسلطي. فلو أخذنا النظام الشيوعي مثلاً لوجدنا أن التعبئة الذهنية المكثفة اتخذت الشعارات البراقة الممثلة بحماية الطبقات المسحوقة والفقيرة ونجح هذا الأسلوب في توجيه أفكار وآراء الناس وجعلهم أسارى هذه التعبئة، حتى صاروا يُجمّلون الممارسات القمعية والعنفية، بل ويجتهدون في إيجاد المبررات لتلك الممارسات وتسهب النخب الثقافية المُعبأة أيضاً في التنظير لتلك الأنظمة وممارساتها.

وأكثر مبررات هذا الأسلوب يتمثل في تخدير الشعوب وإلهائها عن الخسارات المتلاحقة لهذه الأنظمة في إشعال حروب لا فائدة من إشعالها وزج الناس الأبرياء حطباً لنارها من أجل إدامة الشهوة التسلطية. هذا المبرر التخديري يتضح جلياً في الهوس الانفتاحي الذي يمارسه ولي العهد السعودي (محمد بن سلمان) من خلال خطوات (علمنة) المجتمع السعودي وفق ذهنية ليبرالية تتجسد في افتتاح دور للسينما، وإقامة الحفلات الغنائية لمطربين ومطربات أجانبح من أجل زيادة جرع التخدير للمجتمع الذي سينسى بهذه الخطوات كل المآسي والخسارات التي خلفها القرار الطائفي الطائش بالحرب على اليمن. فحين خسر خيار التعبئة الذهنية المذهبية، أو لنقل لم يؤت ثماره المرجوة انتقلت بوصلة التعبئة إلى الاتجاه الذي يعاكس أسلوب التعبئة الممثل بصنع الحركات الدينية ذي الشذوذ العقائدي والانحراف الفكري وممارستها مشروع تذويب الهويات الوطنية وضرب الطوائف والقوميات بعضها ببعض في كثير من بلدان التنوع العرقي والإثني.

الحالة العراقية

في الوضع العراقي، لم يختلف أسلوب التعبئة الذهنية حتى مع تعاقب المراحل واختلاف أنظمة الحكم. فمنذ تأسيس الجمهورية العراقية بانقلاب عبد الكريم قاسم عام 1958؛ انقسمت التعبئة إلى تعبئة يسارية وأخرى قومية حسب الصراع السياسي الكبير لهاتين الأيقونتين في تلك الفترة. وليته كان صراعاً خالياً من مظاهر العنف، فإفرازات تلك التعبئة كانت مخيفة بشكل كبير، وتجلت مظاهره العنفية بثورة عبد الوهاب الشواف الضابط القومي الذي أراد الانقلاب على نظام عبد الكريم قاسم المدعوم شيوعياً ، فكانت النتائج كارثية حيث ممارسات السحل والتقتيل لكل من يثبت أن له توجهاً قومياً معادياً. وهكذا ظلت مخلفات تلك التعبئة المزدوجة ماثلة في الذاكرة العراقية حتى يومنا هذا.

ومع إحكام قبضة حزب البعث على السلطة، منذ انقلاب 8 شباط 1963 الذي أنهى نظام وحياة عبد الكريم قاسم، تكثفت التعبئة الذهنية القومية التي تعاقب عليها عبد السلام عارف، وأخوه عبد الرحمن، ثم أحمد حسن البكر، قبل أن يحكم صدام حسين قبضته الحديدية على السلطة. وأولى بوادر تعبئته القومية كانت بشن الحرب على إيران من جهة، والنفخ الشعاراتي في بوق القضية الفلسطينية، ومنح التسهيلات والاكراميات المعنوية والمادية للطلاب العرب الدارسين في الجامعات العراقية أمام أنظار الطلبة العراقيين الذين كانوا يعانون من وطأة الحصار الذي فرضته الولايات المتحدة الأمريكية على العراق؛ بسبب حماقة النظام في احتلال الكويت. فكانت تعبئة صدام داخلية ضئيلة، وخارجية كثيفة استفاد منها كثيراً ويستفيد منها حتى وهو في العالم الآخر.

في الداخل، وفي أيام الحصار المريرة؛ كانت التعبئة ممثلة بتكثيف إعلامي يروج للمسلسلات المدبلجة ذي المشاهد الفاضحة في محاولة لإلهاء الشعب عن مآسي العوز والفقر في تلك المرحلة العصيبة، قبل أن تتغير البوصلة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، فكانت الحملة الإيمانية لقائد الأمة الذي صار برمشة عين حفيداً للإمام الحسين، والحارس الأمين للقيم الإسلامية والأخلاق التي جاءت بها الرسالة المحمدية السمحاء!

تعبئة الزمن الديموقراطي

أسقطت الولايات المتحدة ومن تحالف معها نظام حزب البعث القومي، الإسلامي في 9 نيسان 2003، وبدأت مرحلة جديدة يفترض أنها مرحلة الانتقال من القمع والتسلط والديكتاتورية، إلى مرحلة حرية التعبير وتنفس الحرية التي سرعان ماخُنِقت بقرار الاحتلال الأمريكي للعراق.

المهم أن بوادر الديموقراطية ــ شكلياً ــ بانت ملامحها مع إجراء الاستفتاء على الدستور، ثم إقامة الانتخابات التشريعية. لكن ماذا عن التعبئة الذهنية؟ هل زالت بزوال الأنظمة التي اتبعتها؟ مخطىء من يعتقد أنها انتهت، بل انها أخذت مسارات أبعد من مساري الشيوعية والقومية، فلقد دخل (الإسلام السياسي) بقوة على خط التعبئة الذهنية التي صارات لها وجوه تنسجم مع وضع التعددية الحزبية والفكرية التي سادت في العراق بعد مرحلة إسقاط نظام صدام حسين.

وتتجدد التعبئة مع اقتراب كل موسم انتخابي، فتعبئة إسلامية تحذر من صعود العلمانيين الذين سيقطعون الصلة بين الناس ودينها وربها، وأخرى علمانية تريد للمجتمع أن يتحرر من القيود الدينية التي تقمع حرياتهم الشخصية حتى وإن كانت حريات لممارسة الشذوذ والإباحة ، وتعبئة أخرى يمكن أن نطلق عليها تسمية التعبئة الذهنية الناعمة المنادية بمقاطعة الممارسة الانتخابية. وهكذا تتعدد صور التعبئة بما يرهق الذهنية المجتمعية التي تجد نفسها عاجزة ومستسلمة عن إيجاد الحلول، في الوقت الذي يستمر التسلط بلا أي تهديد يهدد كيانه.

اضف تعليق