إنْفَردَ الشِّيعةَ بتَقَدمهم الثَقَافِي لأنّ عُزْلتَهم عَنْ السِّياسة لَمْ تَكُن اسْتِسْلاما ولا انْهِزاما، وإِنَّما التِزاما مِنْهم بِالنّص. وَبَعضُ الشِّيعةِ المُعاصِرين قَرَّروا أَنَّ الظُروف المُسْتَجِدة على المُسْتوى الحَضارِي وَتَمَدُّد التَّيارات الفِكْريّة الإِلْحادِية وانْتِشارها تَتَطَلَّب الخَوضَ في أَعْماقِ السِّياسة وتَحَزّباتها والعَمَلَ الدّؤوب نَحْو تَأسِيس الدَّولة، حِماية لِلشِّيعة...
فِي تَفَاصِيلِ الثّقافةِ الشِّيعيّةِ تُمثِّل "السِّياسة" البُعد الأَقَل اهْتِماماً ورِعايَةً واسْتِعمالاً. فإنْ ذُكِرَت "السِّياسة" فَعَلى قاعِدَة الرَّفْضِ المُطْلق لِمَفهوم الدّولةِ المُسْتَبِدة بِمَعناها التَّأريخي القَديِم، والرَّفضِ المُطْلَق لِحاكِمها المُغْتَصِب لِلخِلافَة، حَيْثُ لا يَجُوز الخَوْض بِمَودّة فِي أَحْوالِهما، ولا الدُّخُول فِي حَيِّزِهما كَرُكْنٍ فَاعِل. وفِي المُقابِل تُمثِّل "السِّياسة"ُ البُعد الأَبْرَز والأَهَمّ والأَكثَر اسْتِعمالاً وَتَأْثِيراً فِي صَوغ المَفاهِيم العَقدِية والتَّشْريعات لَدَى المَذاهِب الإِسْلامِيّة.
فَهَلْ تَخَلَّفَت ثَقافَةُ الشِّيعة بِإِهْمالِها السِّياسة واسْتِخْفافِها بِتَحَولاتِها النّظريّة وتَطوراتِها العَمَليِّة وانْقِلاباتِها المَيْدانِيّة؟ وهَلْ تَقَدَّمَت ثَقافةُ المَذاهِب بِالطَّاعة المُطْلَقة لِلدّولةِ وبِالخُضُوع لِلحاكِم والتَّفاعل مَع تَشْرِيعاتِه والاندكاك فِي مُؤسَساتِه؟
الإهتمامُ الثَّقافِي الشِّيعي بِشَأنِ الدّولةِ والحاكِم يَكاد يَنْعدم فِي تَفاصِيلِ ما بَعْد الإنْقِلاب على النُّبُوة والإِمامَة. وَقليلاً ما كانَتْ المَصادر الرِّوائية الشِّيعية تَعْتَني بِالبُعد التَّطْبِيقي لِلسِّياسة، بَلْ كانَتْ تَسْتَخِفَّ ِتَفاصِيلها وتَحُثُّ على التَّخَلِّي عَنْها. كلُ ذلك شَكَّل نَتائِج إِيْجابِيّةً على ثَقافَةِ الشِّيعة بَمَعايِير السِّياسة ذاتِها. وَلَوْلا هَذِه العُزْلةِ عَن السِّياسة لَمَا بَقِيَت لِلشِّيعة ثَقافَة أَصِيلة.
إنَّ إِعْراضُ الشِّيعة عَن السِّياسة فِي تِلكَ القُرونِ السَّالِفة جَنَّبهم الوقُوع فِي مَحْذُور "المَلَكِية" الغَصْبِيّة المُسْتَبِدة. كَما سَاهَم في اسْتِقرار مُجْتَمعاتِهِم، ونُموِ ثَقافَتِهم، والتَمَيِّزِ بِمَتانَةِ الأُصُول. وَلا يَصُح تَجْرِيح هذا المَوقِف بِناءً على نَتائِج النَّظر بمَعارِف اليَوم ونَظَرِياتِه ومَناهِجِه العِلميّة فَنُرْجِع سَبَبَ تَخَلُّف الشِّيعة إِلى عُزْلَتِهم عَنْ الوَقائِع السِّياسية.
وَعِنْد تَقويم المَوقِف المُقابِل بالمَنْهج التَّأرِيخِي المُقارَن؛ فإنّ ثَقافة المَذاهب الإِسْلامِيّة لمْ تَتَقَدّم بِالسِّياسة، وكانَتْ خُلاَصةَ التَفاعُلِ المُطْلق لِلمَذاهب مَع السِّياسية نُشُوء ظاهِرة "دَاعِش" بِثَقافتِها الوَحْشِيّة المَعْروفة.
جَنَّبَ الشِّيعةُ ثَقافَتَهم مِنْ شَرَر السِّياسة. وَيَقِف وَراءَ ذلك مَفَاهِيم عَقَدِية، وظُّرُوف قَاهِرة مُعادِية لَهُم، ولِعُزوف المَروِيات عَنْ إِنْتاج وتَطْوِير المَفاهِيم السِّياسية أَو تَوجِيْه الشِّيعة نَحو الإِنْشِغال بِها عنْ ثَقافَتِهم دَورٌ أَساسيِ فِي ذلك. ثُمّ اخْتَلفَ الشِّيعة بَيْنَ القَرْنَين الثَّامِن عَشَر والعِشْرين فِي تَحدِيد الظَّرف المُناسِب لِرَفع قُيود التَّقِيّة والخَوض فِي غَمَرات السِّياسة والتِّجوال فِي دَهالِيزَها بِثِقَةٍ تامَّة.
وَلو أجْرَينا مُقارَنة تَأريخِيّة حَول مُسْتوى النّاتِج الثّقافِي الحَضارِي لانْشِغال المَذاهِب بِالسِّياسة واسْتِهتَار الشِّيعة بِها، سَنَجِد أَنَّ السُّنة لمْ يُحَقِّقوا بالسِّياسة شَيْئا يُعْتَدُّ بِه ثَقافِيا وحَضارِيا حَيثُ سَادُوا فِي البِلادِ الإسْلامِيّة بِأَربَع دُولٍ عُظْمَى قَبْل الإنْتِهاء إلى التَّشَظِّي بـ"الدّولة القَومِيّة أو الوَطَنِيّة".
إنْفَردَ الشِّيعةَ بتَقَدمهم الثَقَافِي لأنّ عُزْلتَهم عَنْ السِّياسة لَمْ تَكُن اسْتِسْلاما ولا انْهِزاما، وإِنَّما التِزاما مِنْهم بِالنّص. وَبَعضُ الشِّيعةِ المُعاصِرين قَرَّروا أَنَّ الظُروف المُسْتَجِدة على المُسْتوى الحَضارِي وَتَمَدُّد التَّيارات الفِكْريّة الإِلْحادِية وانْتِشارها تَتَطَلَّب الخَوضَ في أَعْماقِ السِّياسة وتَحَزّباتها والعَمَلَ الدّؤوب نَحْو تَأسِيس الدَّولة، حِماية لِلشِّيعة والذَّود عَنْ حِياضِهم وتَحْصِين عَقائِدهم. فَسَعوا إلى تَأْسِيس الأَحْزاب، فَعارَضَهم آخَرون ووَصَفُوهم بِـ"المُسْتَحْمرين" أَو " رَكِبَت المَذاهبُ السِّياسية ظُهُورَهم".. وَما زَال الشِّيعة فِي ذَلك مُخْتَلِفين!
قَدْ لا يَبْدو الإخْتِلاف فِي الوَقتِ الرَّآهن ظاهِرا بَين الإتِّجاهَيْن مِثْلما كانَ عليه فِي النِّصْفِ الأَوّل مِن القَرنِ الماضِي، لأنَّ الأَحْزاَب الشِّيعية المُعاصِرة تَجاوَزَت هذا التَّحدّي وَأُسَّسَت لنَفْسِها فِكْراً خاصا مُحَرِّضا على إِنْشاءِ الدُّول أَو المشَارَكة فِي نَهْضتِها. وَباتَ الواقعُ المُعاش يَفرِض ضُروراتِه على الطَّرفين المُخْتَلِفين، وَلمْ تَعُد الثّقافة الشِّيعية مَصُونَة ومَحْمِية مِنْ مُؤثِّرات السِّياسة مَع تَقادُم الزَّمن وَتَعاقُب ثَلاثَة أَجْيال فِيه.
الإِنْعِكاسات السَلبِية للإخْتِلاف المُعاصِر حَول السِياسة تَرَكَت أَثَرا عَمِيقا وَواسِعا علىٰ الثَّقافَة الشِّيعية، وَهَدَّدت مَصيرَها، وأَنَّ خُطورَةِ الخِلاف تَكمُن فِي كَونه يَجْرِي بصَمْتٍ وحَذرٍ شَدِيْدَين خِشْيَة الإِصْطِدام وإِحْداث الفُرقة.
ما زالَ الإِتِّجاه السِّياسي الشيعي السَّائد فِي هذا الإخْتِلاف يَمْتَلك زِمام المُبادَرة، حتَّى بَاتَ يَعْمَل سِرّا علىٰ اجْتِثاث الطَّرف الآخَر وتَقْوِيض أُصُولِه الثَّقافية وبُنْيانِه المَرجِعي.
كَشَفَ الإِخْتِلافُ بَين الإِتِّجاهَيْن تَّبايُنا عَقَدِيا شَمِل أَبْعاداً ثَقافِيّة لمْ تَكُن خاضِعةً فِي يَومٍ مِن الأَيَام لِضُرورات الواقع. لِذلك لا يُمْكِن الإسْتِهانة بِمَخاطِر هذا الإخْتِلاف والتَّبايُن وإنْ فَرَضَ الواقعُ مُتَبنَّيات السِّياسة ومَفاهيمَها علىٰ الثَّقافَةِ الشّيعية.
فَفِي بَعْضِ مَناطِق الخِلاف الشِّيعي حَول جَدْوى الخَوضِ في السِّياسة؛ اقْتَحَمَ السِّياسِيُّون الثَّقافةَ الشِّيعية واسْتَولوا علىٰ أَدواتِها، وسَخَّروا مَصادِرَها لِخِدْمة السِّياسة فَدَمَّروها تَدْمِيرا.
كُلُ ما شَيَّدته الأَجْيال السَّالِفة فِي الثَّقافة الشِّيعية وَكَرَّسَتْه بَيْنَ مَراحِل اعْتِزال السِّياسة؛ أَتَى السَّاسةُ المُعاصِرون عَلى قَواعِدها فَبَدَّلوها، وَأَغاروا علىٰ المُنْتَديات الثّقافَية بِعنْوان النَّهْضَة والإِصْلاح وزَجُّوا بِها فِي مُغامَراتِ الصِّراع السِّياسي، فَلمْ يَجْنُوا مِنْ ذلك غَير الخُسْران المُبِين.
اضف تعليق