المصير الذي ينتظر مسلمي الهند لا يقلّ خطورة عن المصير الذي آلت إليه القضية الفلسطينية إذ أنّ العديد مِن الأنظمة العربية المتّهمة بصنع الهزيمة وتكريس مظاهرها السلبيّة في الوسط الفلسطيني المناضل ما زال يشكّل طرفا رئيسا في مؤامرة تصفية الوجود الإسلامي في الهند بشقّيه الشّيعي والسّنّي لأسباب يًعتقد...
الهند بلد حرّ يمتلك -على الصّعيد الدّيني- موروثا ثقافيّا هائلا لا يُضاهى.. موروثٌ مرشّح لأداء دور مهمّ وخطير في بلاد المسلمين ومؤثرٍ في المنطقة برمّتها، قد يفوق بتشغيله ما كان يُتوقع صدوره عن سائر البلاد الأخرى ذات الوجود الإسلامي المتاخم لـ(طريق الحرير) والعابر له والمستقبل لِمنافذه.
(طريق الحرير) الجديد الممتدّ مِن بلادي الصّين والهند إلى غرب القارتين الأوروبيّة والأفريقيّة سيفتح للنّشاط الثّقافي آفاقًا تفاعليّة أوسع نطاقًا ممّا خلفته ظاهرة ما عُرف بـ(الاستعمار) المعاصر. وسيكون لِثقافة الأديان والطّوائف فيه دور رئيس معزّز لمفهوم الهويّة وحفظ ما بالذّات من قيم فلسفيّة والانتشار بهما في مجال حيوي حرّ لم يكن متاحًا مِن قبل.
في لقاء خاطف مع أحد علماء الدّين الهنود الشّيعة النّاشطين في مهام تنمية الثقافة الشّيعيِّة في أوساط الجاليات ذات الأصول الآسيويّة في بلاد أوروبا، سألته عن جدوى الإجراء الاحترازي المتّخذ مِن قبل زعماء مسلمي الهند (الشّيعة والسنّة) إزاء ما يجري في بلادهم مِن فصل ديني بشع ومِن موجة كراهية عارمة يهوى الحزب الهندوسي الحاكم (بهاراتيا جاناتا) التّنفيس مِن خلالهما عن بُغض أتباعه لمواطنيهم مِن المسلمين ويحرّض في كلّ يوم على هدم مساجدهم ويحثّ على تشييد المعابد الهندوسيّة على أنقاض شعائرهم.
فأعرب العالِم الشّيعي عن غيظه وبالغ في أسفه حين أطنب في القول: (ما زلنا نشكّل في الهند العدد المليوني الثالث والأكبر مِن المسلمين، وأخشى ما أخشاه ممّا سيجري على (طريق الحرير الجديد) مِن مفاجئات ليست متوقّعة.. أخشى أن نستمر في عزلتنا عن أمور المسلمين ويشتدّ بنا الحصار الهندوسي فيهدّد وجودنا ويَفقد هذا العدد المليوني المسلم الكبير على الأثر هويّته وتتلاشى معالم ثقافته وتبور شعائره ويخسر وطنه، ويظلّ مشردًا في بلاد الشّتات بلا ناصر له ولا مُعين).
سكَت العالِم للحظة ثمّ تأوه فاستدرك قائلا: (إنّنا الشّيعة - أبناء الهند - نعاني أشد المعاناة على ذات السّيرة المفجعة التي يتلوّى مِن ألمها أهل فلسطين.. على رأسها: معاناة اختطاف الوطن، وتفاقم مشكلات النّزوح المُمنهج سياسيًا، واللجوء الاضطراري إلى بلاد الشتات، ونضالٌ يبدو مستحيلا لِفئة قليلة منّا ما برحت تسعى لإنقاذ ما يمكن إنقاذه مِن بقايا هذا الوطن المسلوب الذي يئنّ تحت وطأة الخذلان العربي/السّنِّي منذ عهد الجلاء البريطاني، واستقطاب شيعيّ سلبيّ لِمرجعيّات دينيّة مناطقيّة متفرّقة يهمّها في الأولويّة الانتماء والتبعيّة السّياسييّن اللّذين لا يُغنيان مِن الحقّ شيئا ولا يُسمنان مِن جوع.. صرنا نفتقر إلى مقومات الوجود، فكيف بنا إذا ما نُودي على طريق الحرير!.
انتهى العالِم الهندي بما قدّم مِن تصور رماديّ قاتم بعض الشيء، وراح يُفصح عن تَنبِيهٍ وتحذيرٍ فقال فيما قال: (كلّما أُمعِنّ النظر في التطورات الخطيرة المستجدّة على صعيدي القضيّة الفلسطينية وما يجري علينا في بلدنا الهند مِن شتات قسري وفرقة طائفية بينيّة وفصل ديني هندوسي وتحريض متواصل على هدم مساجدنا التأريخيّة وتعطيل لشعائرنا؛ أرى ذروة صِدام تأريخي قديم في بلاد فلسطين قد أشرف اليوم على النهاية بِتحقّق هزيمة عربية/سنّية نكراء وفشلٍ لِما اشتُهر على لسان العرب المعاصرين بـ(القضيّة العربيّة المركزيّة). كما أرى إلى جانب ذلك ظلالا لنكسة قد تعمّ مسلميّ الهند، لا تختلف عن ظلال نكسة حزيران مِن عام ١٩٦٧م في شيء سوى فارق واحد بارز هو أنّها ما زالت مرشّحة لِتبلغ ذروة الصّدام المباشر مع المتطرّفين الهندوس في القريب العاجل.. ولا نعلم ما هو الدّور المناط بعهدة الشّيعة الهنود)!
قد تبدو رؤية هذا العالم الشّيعي الجليل سوداويّة لِشدّة ما عاناه شيعة الهند مِن إقصاء وتهميش فرضهما التّوافق الاستراتيجي القائم بين الأنظمة العربية/السّنيّة المستبدّة وحكومات الفصل الدّيني الهندوسي منذ عهد الاستعمار البريطاني حتّى يوم مجيئ عهد (مودي) على رأس السلطة. وليس مِن شكّ في انّ هذه الرؤية رثائيّة ناقصة تفتقر إلى معنى قول القائلين (الثّورييّن) بوجوب الاستمرار في تمكين الهويّة الشّيعيّة وتعزيز (النّضال) المستقلّ عن نفرة السّياسة بلا توقّف أو فاصل، فضلا عن تخطي عقباتهما بروح إيجابيّة وثّابة متفائلة، والتّوكل على الخالق عزّ وجلّ عند كلّ خطوة مِن خطوات التحديّ إلى آخر نفَس.
فمذ جُعل اغتصاب أرض فلسطين قضية عربية/سنّية مركزيّة لا يعلو على صوتها صوت؛ استبشرت الشّعوب العربية، وتفاءل الشّيعة المقهورون فيهم بما أفضى إليه واقع الحال ولملموا جراحهم وأقالوا العثرات، ولكنهم فوجئوا بدوام عمل آلة الإقصاء عن ميادين الصّراع مع الكيان الغاصب فلم تعد هناك حاجة عربية/سنّية لهم وأنّ في (الثّوريّين) العرب السّنّة فائضا يكفي لإنجاز معركة التّحرير.. هكذا قيل!
ثمّ دارت رحى الأيام، فكثرت فيها الانقلابات المفاجئة وتفجرت الثورات في كلّ زاوية مِن بلاد العرب، وأُطيح بالرؤساء العرب وظَنّ النّظراء (السُّنة) أنّهم استبدَلوا مَن هم خيرٌ للمسلمين، وتضخّمت شعارات التّحرير ودبّت الآمال في كلّ ناحية وعلى جميع المستويات، وعُمّمت المفاهيم اللازمة للتّحرير الموعود وبُثّت في كلّ بيت عربي.
وكانت خاتمة هذا الجَعل: المزيد مِن التفريط بهويّة الشعب الفلسطيني مقابل جزء مِن الأرض بلا ضمانات دوليّة ملزمة، والمزيد من إجراءات التّوطين الممنهج لفلسطينيّى الشّتات في البلاد المجاورة، والمزيد مِن تبعيّة النضال الفلسطيني لأجهزة استخبارات الأنظمة العربية، والمزيد من الفصل الطائفي البغيض في كلّ البلاد لضمان بقاء الاستبداد وحفظ توازنه السّياسي في غمرة الصّراع.
إنّ المصير الذي ينتظر مسلمي الهند لا يقلّ خطورة عن المصير الذي آلت إليه القضية الفلسطينية إذ أنّ العديد مِن الأنظمة العربية المتّهمة بصنع الهزيمة وتكريس مظاهرها السلبيّة في الوسط الفلسطيني المناضل ما زال يشكّل طرفا رئيسا في مؤامرة تصفية الوجود الإسلامي في الهند بشقّيه الشّيعي والسّنّي لأسباب يًعتقد أنّها مزيج سياسيّ ثقافي لا بدّ مِن إيجاده قبل أن يتمّ بنيان (طريق الحرير الجديد).
فأيّ دور رئيس مرشّح لِمُسلمي الهند بعد ذلك على (طريق الحرير الجديد)، وايّ دور منتظر للشّيعة منهم، والمتطرّفون الهندوس يهدمون وحكام العرب يمكرون ويخذلون ويفصلون!
اضف تعليق