تَيارٌ مُؤثر في الأَوساط الشِّيعية َيَدعو إلى "العلمانية" بَديلا عن إِسلام إدارة شُؤون المُجتمع والدّولة المُعاصرة.. الدَّعوةُ هذه نُخْبوية مُثقفة تَعْتمد على مَنْهج عِلمي نَقْدي دقيق..
كَيْف يَرى هذا التَّيار "العلمانية"؟ وكَيْف نَراها مَعَه بعد فَشَل التّجربة الإسلامية سُنِّيا واضْطرابها شِيْعِيا؟
لا نُفرّق في المَعنى بَين شِعاري "فَصْل الدّين عن السّياسة" أو "فَصْل الدّين عن الدولة".. كِلاهُما دلالةٌ لِمعْنى واحِد مُثير لِلسُّخْرية كُلّما أَخْضعنا التّأريخ والواقع السياسيين لإسْتقراءٍ مُفَصلٍ فيهما.. فعِنْدما نَتساءَل بِجدّ: لو تَطلّبَت الضُرورة السّياسية في الدّولة "العلمانية" تَقمُص الدّين أو اسْتِرجاعِه وَضَمِّه إلى السّياسة، فَهَل سَتَمْتنع السّياسة عن ذلك؟!
نَعلمُ أَنّ الَمفاهيم الإجْتماعية أو الإقتصادية أو التَربوية أو ما أَشْبه، تُشكل نَظرِيات قابِلةٌ لِلإنفِصال عن السّياسة تَطبْيقيا في الدّولة العلمانية وفْقَ ضُرورات السّياسة ذاتها، لأَنها مفاهيم مَرِنَة وآلِيّة في الدّولة لا مُستقلة عنها، ويُمكن للدّولة التَّخَلّي عنها أو تَطويرها وتَحديثها.
وَيأتِي الدّين أيضا في بِذات المَعنى وذَات السِّياق.. إِذنْ لِماذا خُصِّصَت جِهة الدّين للإنفصال عن السّياسة حتى تَسْتقيم الدّولة مِنْ دونه؟!.. هذا تَخْصِيص لا يَقبله العَقلُ الفَلسَفي الذي أَنْشأ نَظرية الدّولة ومَفاهيمها عبر التأريخ الأوروبي، ومِنْه فلاسفة النّهضة ومُصلحي الدّولة.. كلُ الجِدال وردَ في سَيْطرة الكَنيسة وكَهنتِها في ظَرف الجَشَعِ الكَهْنوتي والفَقر العام، لا في دَور الدّين في الدّولة كَمُحفّز ِسِياسي ومُنَظِم اجتماعي.
نَسْتطيع أنْ نُعَرِّف "العلمانية" بِحَسب الواقع العملي التّطبيقي لا بِحسب النّظرية، وذلك لِلوقوف على المعنى الحقيقي.. لأَنّ النّظرية في الدّولة سياسيةٌ كاذبةٌ.. إِنها "حُكمُ السّياسة" سَواء كانت مُنْفصلة عن الدّين أو مُنْدَكة فيه.
فتَعْرِيف "العلمانية" مُشَكِّكٌ ويُحَدَّد بِحسب الضُرورة السّياسية التي تقود الدّولة. فقد تَقْتضي الضُرورة السّياسية أنْ يَكون الدّين جَذر الدّولة وساقَها وأَغْصانَها وورقَها وثمرَها، وقد تَتَجَرّد مِنه كُلِيا لا مُطلقا!
الدّولة العلمانية التّي يُرَوَج لها في الفِكر العربي المُعاصر كَرَدِّ فِعل على تَدَخل الدّين في شُؤون الدّولة أو سياستها؛ كِذبةٌ على المُستوى العَملي التَّطبيقي، وآمالٌ مِثالية يَجْتَرّها مُثقفون مُعاصرون على المُستوى النّظري كَمَظهر مِنْ مَظاهر الهَزيمة التّي مَهَّدَت ِلوقُوعِها عَقيدةٌ مُنْحرفة ورُؤية تَأريخية فاسِدة.
لا صِحّة لِلقول أنّ الدّولة العلمانية تَخَلّت عن الدّين وتَجرّدت منه. إِنّه أَحدُ خياراتها السّياسية إلى جَانب النُظُم الأخرى.. تَخَلي الدّولة عَنْ الدّين يُمَثّل قُصورا في المَفهوم الفَلسفي لِلسياسة.
"العلمانية" المِثالية أوهامٌ يُروجها مُثقفون عَرب، ويُسوِّقونها كخِيار مُنقذ ِمنْ أجل إقامة تَنْمية مُستقرة إِثر فَشَل نَظريات الدّولة "العربية" الواحدة والقَومية والإسلامية.
نُقِرُّ بأنّ الدّولة "الدّينية" المُعاصرة فاشِلة إذْ لَجَأت إلى أَحْضان العلمانية تَطلبُ الدِّفء فيها، فَتَلوّنت بِها كالحَرْباء.. فلا دَولة دِينية بلا علمانية تَقُوم، كما لا علمانية بلا دِين تَقوم.. قد تَخْتلف الدّولتان في وصف الدّين والعلمانية إلى حِين، فيُشار إلى الثّقافة في "العلمانية" عِوضاً عن الدّين، أو إلى الحُرّيات عِوضاً عن العلمانية"!
الدّولة الدّينية المُعاصرة علمانية الهوية، شِئْنا ذلك أمْ أَبَينا، والسّياسة أَصْلُها وليْست أَصلا خاضِعا للدّين فِيها.. لمْ يَسْتطع أحدٌ في العَصْر الراهن إِخْضاع السّياسة للدّين.. ذلك لا يَعني أَنّ العلمانية فَصْلٌ للدّين عن الدّولة.
لو اقْتَضَت السّياسة في الدّولة العلمانية شَنِّ حُروب صَليبية أو إسلامية أو يَهودية أو هُندوسية أو بُوذية وما أشبه، فَهَل سَتَمْتنع هذه الحَرب عَن الوُقوع لأنَّ صِفتها دِينية بِحسب الضُّرورة ؟!.. كيف يَعودُ الدّين إلى السّياسة التي فَصَلته عنها بِعنوان "العلمنة"؟!
إسرائيلُ -على سَبيل المِثال- دولةٌ أَسّستها العلمانية البِريطانية!.. إسرائيلُ دَولة دِينية أَسّستها العلمانية لِمَصلحة "بُروتِستانية لوثَرية".
العلمانية التّي أَسّست إسرائيل كانت على مَذهب مارْتِن لوثر الذي يُبْغِض اليَهود.. كَراهية البُروتستانت لِليهود تَوقفت دِينيا بعد الحرب العالمية الثانية، ثُمّ "أَكْرَموا" اليَهود بِدَولة دِينية في فلسطين لِلتّعويض عن القُصور الأخلاقي القديم.. هل فُصِلَ الدّين عن العلمانية في هذا المثال؟!
تَعْريفُ العلمانية بِجُملة "فَصْلُ الدّين عن السياسة" هِراء ومَحض ثَرثَرة نَظرية عند المثقفين العرب المُعاصرين وتَفَلسُف مِنْهم لا يَنْطبق على الواقع.. السّياسة تُلونٌ يقْتَضي في مَرحلةٍ ما التَّظاهر بالتّخلي عن الدّين بعنوان "العلمانية"، كما يَقتضي في مَرحلة أُخرى التّمسك بِدِين لا يُعْلى عليه شَيء بعنوان "الدينية".
لا نَطعنُ في "العلمانية" والسَّاعين إِليها دِفاعا عن الدّولة الدّينية والسَّاعين إلى تَأسِيْسها.. الدّولة الدّينية هي دَولة علمانية أَيضا تَتظاهر بِعدم الفَصل بين الدّين والسّياسة لِمُقتضيات مَحلية أو إقليمية أو دُولية.. كُلّ أَشكال الدّول القائِمة علمانية، تَتبنّى شَكلا ديمقراطيا أو مُستبدا. والدّيمقراطية في الدَّولة العلمانية أو الدّينية مَرْتبة مِنْ مَراتِب الإِسْتِبداد المُتقدم أو المُتخلف.
اضف تعليق