q

تفرض التحديات والتداعيات من خلال الأحداث المختلفة ضرورة فكرية قصوى تتمثل في إعادة تقييم التجارب، واستيعاب ضروراتها المرحلية، فالنجاح في مرحلة معينة لا يعني أنه سيستمر في المراحل اللاحقة في حال ثبوته على وتيرة واحدة، فالزمن متغير وكذا الأمزجة والقناعات، لذا فإن إعادة تقييم التجارب وفق قاعدة استيعاب المراحل ومتغيراتها هي الأفضل حتى وإن جاء هذا الاستيعاب متأخراً. والنجاح عادة يُقاس بانتمائه لفكر المستقبل وليس فقط بالفكر الوقتي اللحظوي، يُقاس بالتخطيط الصحيح والمستند للبرمجة، وتقنين الاجراءات بعيداً عن التعصب الفئوي أو الانفعال.

وفي منطق الفكر؛ لابد من الإحاطة التامة بالأحداث وتشخيص آفاتها الحضارية، والواقع الإنساني يشهد حالات تبدل متواصلة داخلاً في معطيات جديدة، خارجاً من معطيات لم تعد مناسبة، وهكذا تدور عجلة الحياة من أجل الوصول شاطىء أمان معرفي وواقعي، وبعكس هذه الرؤية؛ فإن المسار الحضاري سيتعرض لكثير من الهزات وهبوط قيم الخير أمام تصاعد القيم المعاكسة.

منذ سنوات عاشت شعوبنا في الشرق حالة من الصحوة، بعد فترة من الاحباطات والانكسارات وغياب الأمل، وقد أطلق على هذه الصحوة تسمية (الربيع العربي)، وأحدثت ما أحدثته من تحولات كبيرة على صعيد السياسة أولاً ثم التعاطي مع الراهن الفكري ثانياً. وفي بعض البلدان لم يتم استيعاب المرحلة وتحولاتها كما في التجربة المصرية، فبعد فترة عصيبة عاشها المصريون أثناء الحكم العلماني تحت رئاسة (محمد حسني مبارك) الذي تنحى بعد ضغط شعبي هائل؛ جاءت التجربة الإخوانية كرد فعل عاطفي.

لكن الإسلاميين لم يقرأوا متطلبات المرحلة الجديدة جيداً، ووقعوا في ذات المأزق الذي كان أسلافهم العلمانيون قد وقعوا فيه، وهو مأزق استيعاب المرحلة. فالإسراف في منح الحرية المدنية وفق المقاسات الغربية على حساب العقائد والخصوصيات؛ لا يعني بالضرورة أن الناس ستسكت عن تردي الوضع الاقتصادي وهي ترى البون الاقتصادي الشاسع بين الحكام ودائرة المقربين منهم من رجال الأعمال والمقاولين والحزبيين، وبين عامة البسطاء من الناس الذين أدركوا متأخراً أن حرياتهم العارية من جوهر الحرية ومعناها ماهي إلا قناع لتمرير مشاريع سلطوية تضمن البقاء لأبعد فترة زمنية ممكنة.

وفي التجربة اللاحقة، أدرك الناس أن الذي تبدل هو المسمى فقط وليس المنهج، فالتمسك بالشريعة الإسلامية (ظاهرياً) لم يحقق لهم أبسط متطلباتهم في العيش بكرامة فضلاً عن ظهور شبح مخيف تمثل بقمع الحريات الدينية لمن له معتقد غير المعتقد الذي تتبناه السلطة الحالية (حادثة الشيخ حسن شحاتة مثلاً)، وهنا نجد أنفسنا أمام إشكالية المعتقد السلطوي والذي يمكن لنا أن نناقشه في مناسبات قادمة.

بصورة أو بأخرى، يمكن أن نحصل على تجربة شبيهة بالتجربة المصرية، رغم اختلاف الظروف والمزاج، وهذه التجربة هي التجربة الإيرانية. فبعد حكم نظام الشاه (محمد رضا بهلوي) جاء التغيير الكبير الذي صار حديث الجميع في الشرق والغرب ممثلاً بتجربة إسلامية قادها السيد الخميني معلناً عن نظام ولاية الفقيه في (الجمهورية الإسلامية الإيرانية) منذ عام 1979 ولغاية يومنا هذا.

مؤخراً حدثت بعض التظاهرات الاحتجاجية في إيران لدواع يغلب عليها الهاجس الاقتصادي، في حين تتحدث السلطات عن مؤامرة غربية لإجهاض تجربة ولاية الفقيه، خصوصاً بعد فشل المخططات الغربية في صناعة أنموذج تكفيري أُريد له أن يكون إزاء النظام (الشيعي)، حيث تمت إزاحة ما يعرف بتنظيم (داعش) الإرهابي عن العراق الذي ترتبط قياداته الحاكمة بعلاقات صداقة وطيدة مع إيران، فضلاً عن هزيمة التكفيريين في سوريا، ولا يختلف اثنان عن الدور الإيراني المهم في إزالة شبح التنظيم الإرهابي سواء في العراق أو سوريا، ومن ينكر هذا الدور فهو في وهم كبير.

تداعيات الاحتجاجات في إيران، وطريقة التعاطي معها على مستوى السلطات، خصوصاً بما يتصل بالتصريحات المشيرة إلى وجود مؤامرة خارجية تستهدف الداخل الإيراني؛ تجعلنا نسأل عن المدى الذي استوعب فيه النظام في إيران المرحلة الجديدة وتحولاتها. لا يُنكر أن محاولات زعزعة الداخل الإيراني موجودة نظراً لمسببات انهيار المخططات الخارجية، لكن ذلك لا يعني أن المنادين ببعض الإصلاحات كلهم أدوات لتنفيذ المشاريع الإمبريالية والاستعمارية. الداخل الإيراني بحاجة إلى موازنة بحيث يكون معادلاً موضوعياً للاستراتيجية الإيرانية الخارجية التي تبدو كخط دفاع للداخل، لكن الواقع يقول أن الداخل يلتهب، وهناك احتجاجات وردود أفعال ومناوشات بين المحتجين من جهة، وبين الأجهزة الأمنية المكلفة بحماية النظام والدولة من جهة ثانية، وصارت قضية الإصغاء للأصوات المنادية بالإصلاحات ضرورة مرحلية، خصوصاً وأن احتجاجات مماثلة سابقة حدثت عام 2009، لكن الزمن ــ كما قلنا ــ يتغير، ويلزم استيعاب كل التغييرات التي تحصل بهدوء، فمؤشرات اعتبار ما يحصل على أنه ربيع مستعجل قبل أوانه قد تتصاعد إذا ما استمرت حالة غض النظر، أو التشبث بنظرية المؤامرة حتى مع اليقين بوجودها على المستوى الواقعي، ومن جانب آخر؛ نعتقد أن الرهان على ربيع شتائي قائم على تحريك خيوط داخلية من أجل إجهاض تجربة أو إسقاط نظام حسب رغبات خارجية يبدو رهاناً خاسراً وربيعاً بارداً لا نسمات ترتجى منه.

اضف تعليق