قد يوحي الشطر الأول من هذا العنوان الاستفهامي بأننا نتحدث عن ظاهرة آنية حُكمت بزمن حدوثها وانتهت كأي ظاهرة من الظاهر الجيلوجية، لكننا نحاول الدخول لمنظومة القيم والسلوكيات التي أعقبت هذه الظاهرة.
الوقت: التاسعة من مساء الأحد 12 تشرين الثاني 2017، كان الجميع منشغلين بتصفح الفيسبوك في أجهزتهم الاتصالية قبل أن يشعروا أن الأرض تحتهم ترتجف، والجدران تحركت من مكانها، وكذا بالنسبة للمراوح السقفية. أغلب الظن أن انفجاراً كبيراً حدث، لكن البرنامج التلفازي المباشر عن الوضع السياسي، والذي كان الأب يتابعه توقف حين أعلن المذيع أن شيئاً غريباً يحدث ولعله هزة أرضية. إذن الموضوع ليس انفجاراً حدث بالقرب من البيت، بل هزة أرضية سارعت العائلة على إثرها وفي هلع الخروج من المنزل في حالة رعب شديد، قبل أن تهدأ الأوضاع، ويزول الخطر. وبينما كانت الأم منشغلة بصلاة الآيات وقراءة الدعاء الخاص بالزلازل والكوارث؛ كان الأب يتابع الأخبار التي انشغلت بالهزة الأرضية التي ضربت إيران والعراق وسريا وتركيا وبعض مناطق الخليج. وبعد الاطمئنان وزال الخوف؛ عاد الأولاد إلى الفيسبوك مستمتعين بكم هائل من (التحشيشات) العراقية المعبرة عن هذا الحدث!
أحد المدونين كتب ساخراً : "الملحدون في العراق دمج لأن صفحاتهم اشتعلت بعبارة: سترك يارب"، بينما كتبت ناشطة بعد أن نشرت صورتها وهي خارج المنزل: " شكراً للهزة الأرضية التي جعلتني بنت شارع لأول مرة"!
في حين انشغل كثيرون بالتكذيب الصادر من المرجعية في النجف الأشرف حول التسجيل الصوتي الذي نُسب لمكتب السيد السيستاني، الذي انتشر بسرعة البرق بعد الهزة محذراً المواطنين من هزة عنيفة في منتصف الليل، ويجب عليهم التهيؤ والحذر وإطفاء أجهزة الموبايل ونزع بطاريات الشحن عنها.
وبين ما يعرف بالتحشيش، والنكات الساخرة بعد زوال الخطر، كانت هناك عوائل تئن تحت وطأة الفقدان، وتبكي؛ لأن الهزة في مناطقهم كانت قوية وقد هدَّمت منازلهم، وفي بعض الدول فقد العشرات حياتهم بسبب قوة الهزة فضلا عن تدمير منازلهم وممتلكاتهم .
هذه الصورة المرعبة من تلاشي التفاعل الإنساني بين بني البشر تعود بنا إلى سؤال تصدع القيم الإنسانية في عصر ينبغي أن يكون (عصر تواصل اجتماعي). ترى كيف سيكون الحال لو أن قوة الهزة الأرضية في تلك المناطق وصلت لمناطقنا لاقدَّر الله؟ كيف لي أن أتفاعل مبتسماً وضاحكاً مع هذه المنشورات الساخرة، بينما إنسان آخر هو مثلي أيضاً له بيت وزوجة وأولاد وصفحة في الفيسبوك، لكنه وجد نفسه فاقداً لعائلته، ومنزله مُدَمَّر بالكامل؟
نحن اليوم إزاء مشهد اتصالي هائل، يكاد يكون المهيمن على اهتماماتنا الحياتية، بل ويساهم بشكل مخيف في صنع الرأي العام تجاه مختلف القضايا والأحداث، فإننا نلحظ تراجع القيم التي يمكن من خلالها تكوين الرأي، أو بلورة الأفكار، مع تقدم سريع للقيم المُنتجة افتراضياً، الأمر الذي سيترك حتماً آثاره على الثقافة والفكر، منشئاً أنماطاً جديدة بسياقات تستسهل الولوج إلى العلوم الإنسانية المختلفة، وبالتالي - ومع حالة اختلاط المفاهيم المتعلقة بتقييم المنجز - سنكون أمام حالة ضياع المقاييس التي بذرها الإفتراض الإلكتروني، وصارت أشجاراً واقعية، جميلة الشكل من الخارج، منقطعة الجذور، وبلاثمر فكري أو معرفي، أو حتى أخلاقي.
والميديا اليوم هي الشكل الأبرز والقريب للفرادة في قضية صناعة الرأي العام؛ لكونها أيقونة الممكن التواصلي الأسرع، فخلقت حالة من الانبهار لدى الملايين المتعاطين مع وسائلها أثمرت عن تأثير يذكر بالانبهار الذي أحدثته ولإذاعات والتليفزيونات ودور السينما على سلوك الأفراد في فترات سابقة. وتأثير الميديا المعبر عن عدم التفاعل الإنساني مع الكارث التي تلحق بالبشرية سيكون سريع الانتقال، ما يعني خدش صورتنا أمام الآخرين الذين نتوحد معهم في أننا من بني آدم، فضلاً عن تناقضنا مع ما آمنا به من رسائل للتسامح، فنحن أمة بُعِثَ نبيُّها ليُتِمَّ مكارم الأخلاق.
لقد أثبتت هذه الهزة القصيرة في وقتها، العميقة في رسالتها ودلالاتها .. حاجتنا إلى تفهم أخلاقياتنا وسلوكياتنا نحن الذين فضّلنا الله تعالى في كتابه على سائر المخلوقات والموجودات، حاجتنا إلى إعادة التفكير في المنظومة القيمية المحكومة بآليات التكنلوجيا والثورة الاتصالية. نحتاج فعلاً إلى تأصيل المضيء من قيمنا؛ ليكون متكأً لنا من الرياح الاتصالية التي تريد اقتلاع جذورنا. نحتاج إلى التمسك بأحاديث الرسول الأكرم (ص) والتي تحث على التوادد والتراحم بين الناس من قبيل : " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثلُ الجسد إذا اشتكى منه عضو؛ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"، أو كما جاء في وصية الإمام علي لولده الحسن عليهما السلام: " يابُني اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك، فأحبب لأخيك ماتحب لنفسك، واكره له ماتكره لها"
أرجو أن لاتفوح من هذه الكلمات رائحة التبرم والتشاؤم، وفي نفس الوقت أتمنى أن تكون هذه الهزة فرصة للرجوع إلى الذات والعودة إلى كل مايجعلنا إنسانيين حقاً، لا هياكل متجردة وتتقنع بالأنسنة.
اضف تعليق