q

من دون النقد البناء؛ لا يمكن انتشال المجتمعات من البرك الآسنة للتخلف والجهل والظلام، فهو الوحيد القادر على تشخيص مواضع الخلل في البنية الاجتماعية، ومن ثم اقتراح الحلول لمعالجتها. لكن هل توجد لدينا مقومات تقبل النقد البنّاء؟ ولماذا بمجرد أن تُذكر مفردة النقد، حتى تتشرب الذهنية بنصوص الأدب وفعاليات الفنون المختلفة، وكأن هذه المفردة اختصت بهذه القيم الابداعية دون غيرها؟

علينا تفعيل الأفكار التي تتقبل النقد من كافة الزوايا التي تحيط بالوجود البشري، نقد شامل يدخل إلى عمق المادة المنقودة، والبحث في حيثياتها وأنساقها المضمرة التي تُعد المسبب الرئيس لإنتاج هذه المادة أدبية كانت أو اجتماعية.

ولو نظرنا إلى النصوص التي تُنتج في الحقول المعرفية فكراً وفلسفةً وأدباً وتاريخاً وتفسيراً، ولطريقة التعاطي النقدي معها؛ لاكتشفنا سَلَّةً من المصطلحات الجاهزة والوافدة التي تُقحم بشيء يشبه الكوميديا، ولاعلاقة لها بظروف انتاج النص ثقافياً وجمالياً ومعرفياً، ولانرى إضاءات لمسارات النص. ومثل هذا الحديث قد يرجع بنا لمناقشة التصارع الوجودي بين النقد الأدبي والثقافي، وهو بطبيعة الحال جزء لايتجزأ من مشكلة التعاطي النقدي مع ما يحيط بالعالم من مشكلات. إن المشكلة النقدية تكمن في أن عملية رصد الثغرات بهدف تقويمها تتحول بغفلة المتصدين لعملية النقد إلى حالة من تعميم الأنماط الفاسدة، وبدلاً من تحريك ساكن الأفكار وبلورة الرؤى المستقبلية؛ نجد أن شللاً نقدياً وفكرياً يُعيق عملية الاندماج بالحياة.

وكثيرة هي الأزمات التي عصفت بالواقع الإنساني، بل وهددت مصيره ووجوده، وأبرزها مشكلة جماعات العنف المنطلقة من عقائد عنفية منحرفة، وكأنَّ هروباً ممنهجاً للنقد من عملية الكشف عن الصلة الجوهرية بين هذه الجماعات وبين العقائد التي تحركها، حيث يكتفي النقد القامع لحركة العقل بترديد جمل فضفاضة عامة مزخرفة ببعض الشعارات البراقة والرومانسية في تحليل الظواهر التي أضحت تفتك بالوجود البشري. وأقل وصف يمكن أن يقال بحق هذا النمط من الكوميديا المبكية للنقد هو وصف النقد المؤدلج.

هذا الهروب الممنهج من النقد بوصفه عمقاً وكشفاً للأنساق، إلى النقد المزخرف يفيد تلك الجماعات التي ستعزز من عنفها مُحصنة بذلك الهروب النقدي البعيد عن المكاشفة والمصارحة التي تستلزم نقداً يدخل إلى عمق الظاهرة التي تنطلق منها تلك الجماعات، وبالتالي سيعيق كل محاولات تعزيز فلسفة السلم الأهلي، وخطاب العقل المتحرر من هيمنة يتماهى فيها العنف العقائدي مع التطلعات والمشاريع السياسية المشبوهة في ظل خريطة عالمية تزيد مساحة المتاهات الوجودية فيها.

النقد بين العنصرية والمذهبية

وبما أن العنف يتخذ أشكالاً متعددة لبسط هيمنته ونفوذه، ومع الأسف نراه – واقعياً – ينجح في هذا المسعى؛ فقد صار التفاعل مع تمظهراته الحياتية إيجابياً انطلاقاً من مرتكز نقدي تبريري صار يحرف الأنظار عن المشكلة الرئيسة للتمدد العنفي ليخوض في قشور المشكلة دون الولوج لعمقها. ويمكن لحاظ هذا المرتكز النقدي في بعض التجارب التي حدثت مؤخراً عندنا في العراق، وأبرزها قضية التعاطي النقدي مع مشكلة الاستفتاء الخاص بانفصال القومية الكردية عن العراق تمهيداً لإعلان الدولة الكردية التي شكلت حلماً يداعب أبناء هذه القومية باستمرار.

ودائماً ماكانت النخب الثقافية والفكرية محط أنظار الآخرين، بل وأن المواقف التي تصدر من هذه النخبة تساهم بشكل كبير وفاعل في تأسيس رأي عام يوجه أية قضية، لكن الذي حدث هو أن الفاعلية النقدية انقسمت بشكل يفتح شهية الإيديولوجيا، وصارت المنابر الاعلامية ووسائل التواصل ساحة للجدل العقيم، وللتنابز بالالقاب، فضلاً عن التهديدات التي ارتفع صوتها كثيراً بفضح هذا الطرف لذاك وبالعكس.

الانقسام النقدي أخذ بُعدين كل بعد أشد عنفاً من الآخر، وهما: البعد العنصري والبعد المذهبي، وإذا وجدنا للبعد العنصري مساحة تتعلَّق بأصل الصراع ذي الهوية القومية، والممتد لأزمنة سابقة، لإإننا نستغرب ارتفاع حدة الضوء المذهبي في هذه القضية، حيث راحت النخب تقحم المذهبية في هذا الصراع من خلال بعض المدونات والمقالات التي ذهبت باتجاه تحميل مكون معين مسؤولية ما يحدث في كردستان، وكأن البلد يدار فقط وبفردية من هذا المكون، وهذا خلاف الواقع والحقيقة والمنطق، بل أن الذين يتهمون ذاك المكون هم أشد تطرفاً لقوميتهم في صراعها مع القومية الأخرى، وحوادث التاريخ شاهدة على هذا التعصب الذي ولَّد نزاعات وحروباً وكوارث.

إنَّ ردة الفعل النخبوية والثقافية تجاه القضية الكردية التي تدحرجت مثل كرة الثلج؛ جاءت بصورة انفعالية وغير مدروسة، واذا استبعدنا مايُقال من أن أغلب الذين تصدوا لهذه القضية نقداً يلبياً مرتبطون بأجندات القومية الأخرى؛ حتى لانكون من متبني (نظرية المؤامرة)، فإننا لانستبعد مطلقاً هيمنة البعد النقدي المذهبي نكاية بمذهب آخر لتكبير مساحة الرماد المحيطة بالوطن، الذي لم نشاهد مثقفيه ونقاده يصطفون موحدين تجاه محنة كبرى قد تعصف ببلدهم، بل شاهدنا طابوراً من النقاد الذين زاوجوا العنصرية بالمذهبية، مُشَكّلين قوة نقدية ناعمة، اتخذت من النقد غير البنّاء وسيلة لتحقيق مآرب شخصية وإيديولوجية، عبر أقلام يمكن أن نطلق عليها أقلام الكوميديا النقدية الرمادية.

اضف تعليق