الترهل الفكري جملة تسعى لرصد حالة الاجترار في الأفكار والدوران في حلقة مفرغة، وبقاء العقل يدور في مساحة دائرية مغلقة، تمنعه عن طرح الجديد، وتغلق أمامه منافذ الاختلاط مع الآخر الذي يقع خارج حدود الذات، فيبقى هذا الفكر حبيس النظرة الواحدة، يتقوقع في حدودها ويبقى أسيرا لها، إذاً علينا دائما أن نثير الأسئلة الناقمة أو المستفزة، هل يعاني العقل العربي من حالة الترهل الفكري؟.
سؤال جيد كما قال عنه أحد المفكرين العرب عندما تحاورنا معه في هذا الشأن، فهو مثل كثيرين، يعتقد بعجز العقل العربي عن مجاراة ما توصل إليه العقل الآخر ونعني بمفردة (العقل الآخر) هو ما أنجز نقلة على مستوى الابتكار والإبداع والإنتاج معا، خصوصا مع بروز ظاهرة الاعتداد الفارغ بالذات، والمقصود من الجملة الأخيرة، أن هناك مفكرين يرفضون بصورة مطلقة مناقشة الترهل الفكري الذي يصيب العقل العربي ويجعله في حالة تراجع قياسا بالعقل الغربي على سبيل المثال، وسرعان ما يتم الدخول في مرحلة خلط الأوراق، فيتم الذهاب الى الخرق الأخلاقي في العقل الغربي، في حين نحن نركّز على علمية العقل وإنتاجيته.
ما هي أعراض الترهل الفكري عند العرب، نحن نطرح مثل هذه التساؤلات ليس إيغالا في جلد الذات، ولا شعورا بالدونية إزاء الآخر، الغرب أو سواه، إننا نسعى لإثارة جدل فكري هدفه تحريك السكون والغموض الذي يغلّف الفكر العربي، ويصيبه بالفعل في بالترهل، فيدخل في دوامة من التشتت والذهول، فيما يتقدم الآخرون في عالم الفكر الذي يفتح الأبواب المغلقة أمام الإنتاج الفني الإبداعي للجميع.
لماذا نحن ننشغل حتى هذه اللحظة بمعالجة شؤون السلطة، ومظاهر الفساد، ونهدر الكثير من الوقت والاهتمام في أمور لا يجب أن تستنزف منا الكثير، ثم بعد ذلك ندوخ بقضية التفكير ونحن نعلم تمام العلم، أن فساد الفكر يأتي من فساد السلطة، والأخيرة نتاج مشكلة (فساد الثقافة) أو ضعفها في أضعف الإيمان، وأن حالة الترهل الفكري نتاج طبيعي لمنظومة فساد أشمل وأوسع لدرجة أن السياسة والثقافة والمجتمع والفكر والسلوك يدخل في هذا الإطار.
من أعراض الترهل الفكري، الدوران في حلقة مفرغة، وانتعاش الجدل الفارغ، وعدم ترويض الفوضى، وإطلاق العنان للغرائز، وحالة الاستئثار الجمعي التي تدفع بالجميع الى تقليص مساحة الفكر لصالح المادة، تماشيا مع عصر العولمة الغربية الذي دخل في عقولنا ونفوسنا وأثث بيوتنا ودخل في خصوصيتنا وغرف نومنا وشوه عقول أطفالنا، وعزلهم عنا، وأفقدنا السيطرة عليهم، كأنهم في حالة تيه وضياع فيما نعاني نحن من حالة عجز شبه تام في السيطرة على واقع أبنائنا، مع فقدننا أصلا في التحكم بواقعنا، ويبقى السبب يدور في فلك الترهل الفكري الذي راح يستفحل ليصيب العقل العربي ومنه العقل العراقي غير المستثنى من هذا الواقع المؤلم.
ومن أعراض الترهل الفكري أيضا، خمول الفكر، ودورانه في مساحة ترفض التجديد، ولا تنسجم بسرعة من المستجدات الفكرية على المستوى الأوسع، حتى أن أفكارنا بلغت من الجمود والنمطية والقولبة درجة مخيفة، والأخطر في هذا الواقع هو رفض الإقرار بهذه المشكلة والتشدق بالتاريخ وجذور الثقافة والفكر العربي، في حين أن الواقع يقول أننا نعاني من ترهل واضح في الفكر العاجز عن مواكبة ما يستجد في الساحة الأوسع.
البحث عن آفاق للتغيير ممكنة، بعضهم يقول واجبة، وهؤلاء مفكرون فلاسفة وعلماء يحملون بذرة طيبة للتغيير، وما يفتح نوافذ للأمل أن مثل هؤلاء في حالة ازدياد، مع وجود مشاريع فكرية تضيء هنا وهناك وتطرح محاولات فيها جدية، لكنها تحتاج الى معاضدة، فتجديد الفكر من أصعب الخطوات التي يمكن أن يتخذها شعب أو أمة ما، إنها عملية شروع بتجديد العقل الجمعي وهذا في الواقع يحتاج الى جهود خرافية لكنها ليست مستحيلة.
معالجة الترهل في الفكر العربي ممكنة، نقول هذا ليس من باب الاستسهال، او النظر في عجالة وتفاؤل ليس في محله، وإنما نحن ننطلق من رؤية تقوم على الإرث الفكري الإسلامي العربي الهائل والضخم والذي يبلغ درجة عالية من الندرة والتنوع والانفتاح والتدخل والاستعداد الدائم للتفاعل عبر الحقب التاريخية المتعاقبة وصولا الى الراهن، فقط مأمول من الجهات ذات العلاقة، منظمات فلسفية فكرية ثقافية، وجهات رسمية او مدنية مهتمة في حقول الفكر، أن تقدم مشروعا فكريا متكاملا يسعى لإنقاذ الفكر العربي من حالة الترهل التي تكبله وتعيقه عن مواكبة الفكر الجديد، وقد يقول قائل هناك مبالغة في الطرح وسوداوية مبالغ بها، لكن علينا أن نعترف بأن تشتت الفكر العربي لا يمكن أن يغيب عن المراقب والمتابع الحصيف، ومن الأمور المستحسنة أن نؤشر أخطاءنا بأنفسنا أفضل من أن يخبرنا بها الآخرون!.
اضف تعليق