العراق بلد فكر قبل أن يكون بلد سياسة، مقولة يوقع عليها بعض المؤرخين المعاصرين، فقد سبق الفكر السياسة وجودا في هذه البقعة من الأرض، وركّزت الأقوام القديمة التي أسست حضارة وادي الرافدين على الفكر، ولم تقف عند هذا الحد، فزاوجت بين السياسة والفكر، وتولَّد الفكر السياسي في العراق القديم، هذا الإرث الفكري البعيد الجذور يشهد له العالم تأسيسا وحضورا وتطبيقا، لكنه عانى من افتقاد البناء التراكمي، فأهملت الأجيال المتتابعة تطوير الفكر لأسباب معظمها خارجية بسبب الأطماع التي تعرضت لها أرض العراق وليس هذا المقال مناسبا للخوض فيها، فالمثبَت أن العراق بلد فكر وفقا لمحصلة التاريخ والوقائع.
نوع من التشتت وسم الحركة الفكرية السياسية هنا في هذه الرقعة الجغرافية الضاجة بالحركة والتقاطع والاختلاف، ولوحظ ذلك في المراحل المتعاقبة قديما ووسطا وحديثا، فحتى هذه اللحظة لا يوجد فكر سياسي رصين لدى الرؤوس العاملة في ساحة العراق السياسية، إلا لكانت الأمور غير ما هي عليه الآن، فالعلامات المعكوسة من الواقع تنم عن مشكلات كبيرة يعاني منها البلد إداريا، ويُقال أن الأمة التي لا تتمكن من إدارة شؤونها بطريقة جيدة فإن مردّ ذلك فقدانها للفكر القادر على منحها سمة النجاح، ولا ريب أن ساستها متأخرون في الفكر السياسي ويجهلون طريقة بناء الدولة، وقد ظهرت دعوات من مراجع وعلماء ومفكرين ومختصين ناشدت القادة السياسيين على أهمية بناء هذا البلد اقتصاديا وسياسيا وفكريا وعدم الإيغال في تفتيته مقابل الحصول على جوائز وقتية جلّها ذات طابع مادي.
إذاً توجد دعوات موجَّهة للفئة العاملة في حقل السياسة العراقي، وتلوح في الأفق نداءات لا يزال دوّيها يصمّ الآذان، كلها تطالب قادة هذا البلد بزجّ الفكر السياسي المحنَّك في تنظيم شؤون العراق، فهو بلد الفكر الذي تعلّم على يديه العالم، فحريّ به أن ينهض بنفسه، على الأقل تعويضا لمعاناة شعبه في مقابل عقود ولا نخطئ إذا قلنا قرون من القهر والمصادرة وصور المسخ التي تعرّض لها أبناء هذا البلد وسلب ثرواتهم وحرياتهم وحقوقهم، فالخطوة الانتقالية التي كان ينبغي أن تحدث قبل هذا التاريخ بكثير، هي طرح المشاريع الفكرية السياسية التي تبني العراق في الحاضر والمستقبل.
في المخزون الفكري لسماحة المرجع السيد صادق الشيرازي، حول طبيعة الإجراء السياسي في العراق هنالك تركيز تنظيم الفكر السياسي وإشراكه في رسم واقع ومستقبل العراق:
(على الأحزاب والمنظّمات الأصيلة التي تتصدى لمشاريع وبرامج تهم العراق حاضراً ومستقبلاً، أن تعمل، وكما هو متوقّع منها، على لملمة أطراف هذا الشعب، الذي قاسى من الآلام والمآسي ما قاسى، عبر التركيز على الإيجابيات ونبذ السلبيات/ المصدر: كلمة للسيد المرجع منشورة في موقع مؤسسة الرسول الأكرم).
لا ريب توجد فرص كبرى لبناء العراق الجديد، ولكن يحتاج الأمر الى تهيئة وتمهيد وفكر متوقد وإرادة جبارة واستغلال علمي للموارد البشرية والطبيعية ومنطلقات التطور، فهذا البلد فيه كل شيء يدفع نحو التقدم والتطور والعيش الرغيد، ما يحتاجه العراق على وجه الدقة، فكر سياسي متوقد، وسياسة فكرية تأخذ في عين الاعتبار مكانة هذه الأرض وتاريخها، ثم توظّف بعناية وحسن تصرف الكنوز المادية للعراق كي تبني منه دولة تأخذ عنوانها ومسارها وجوهرها بحذافيره من روح العصر.
(إن في العراق كل مقوّمات التقدّم والتطوّر، والرفاه والراحة، فهو يملك المال، والنفط، والأرض الخصبة/ المصدر السابق). هذه الكلمات للسيد صادق الشيرازي وهو يشير الى المقومات التي تشجع السياسيين كي يبنوا الدولة العراقية بإخلاص، فكل ما موجود في هذه الأرض يشجع على الانطلاق نحو الدولة المتمدّنة، هناك القاعدة الفكرية والدعامات المادية، والمزج بين الاثنين بطرائق علمية وحرص وتأنٍ سوف يمضي بالعراق نحو العلا.
كل هذه الصورة (الحالمة) لبناء دولة العراق المتحضّرة، من الصعب أن نجهزها في الواقع، ولا يمكن أن نقترب من تحقيقها ما لم يتم استخدام الإرث الفكري السياسي المتنوّر لهذه الأرض، لتهيئة وصنع نظام حكم متمدّن تعددي رافض بشكل قاطع للدكتاتورية، وهذا يعود الى نجاح الأحزاب العراقية في الاستفادة من الفكر السياسي الأكثر نجاحا في التجارب العالمية، ولا ريب أن النظام الديمقراطي اللامركزي التعددي هو أفضل الأنظمة السياسية في إدارة شؤون الدولة التي تخطط لتجنب كوارث الأنظمة الفردية.
السيد صادق الشيرازي يمتلك مجسات دقيقة تقرأ تاريخ العراق برويّة وتستطلع أوضاعه بتأني العارف الحريص، فيقترح سماحته رؤية لشكل النظام السياسي الذي يتلاءم وحالة هذا البلد العريق، فيقول: (العراق بحاجة إلى التعدديّة لا الدكتاتورية، فبقدر ما تجرّع العراق آلام الدكتاتورية هو بحاجة اليوم إلى التعدديّة/ المصدر السابق).
في ختام هذه الكلمة، لا مفر من القول بأن بعض الساسة من قادة العراق يفتقرون الى العمق والتعمّق في الفكر السياسي، فإذا بادروا الى معالجة هذا النقص، تمكنوا من الذهاب بالبلد نحو مرفأ الأمان، العراق الجديد بحاجة الى رؤية سياسية مدعومة بفكر سياسي أصيل، توفر له نظام حكم عادل حر تعددي قائم على مبدأ الشورى، حامي للحريات والحقوق، وكل هذه الاشتراطات يمكن تدبيرها إذا ما تم الانسجام السياسي بين الأحزاب، كي تتمكن من الوقوف على أرضية صلدة.
يأمل سماحة المرجع الشيرازي ممن يتخذ من السياسة مهنة له في العراق، أن يحرص على بناء العراق الجديد، بالمواصفات التي تجعل من هذا البلد متميزا ومؤهلا لاتخاذ موقعه الطبيعي في قيادة العالم نحو قافلة الفكر الحر، فيقول السيد صادق الشيرازي: (نأمل ببناء عراق مستقل وموحّد وعلى أسس التعدّدية والمشورة والعدل والحريّة المشروعة).
اضف تعليق