من المعروف أن الإنسان والوطن مفهومان يحققان تلازمية أكيدة، حتى مع أفضلية المفهوم الأول (الإنسان)؛ لأنه ــ وبحسب شرائع السماء ــ قيمة عليا، ولايمكن لمفهوم الوطن أن يوجد مالم يتواجد الإنسان عليه.
المواثيق والقوانين الدولية، حددت هذه التلازمية بين ثنائية الإنسان / الوطن بالجنسية، حيث اعتبرتها رابطاً قانونياً يؤكد انتماء الفرد لدولة معينة.
مثل هذا التحديد قد يحقق الارتباط بصيغته الوضعية، غير أن الأهم هو أن يتحقق التلاحم من خلال الإيمان بالوطن والتماهي مع قيم المواطنة؛ من أجل تأصيل البنية الأخلاقية للمجتمعات والتي تحيل لمفهوم الدين الذي يعد عاملا أقوى من العوامل السياسية والقومية لما للعاملين الأخيرين من خضوع لمصالح ومشاريع قد تترك مفاهيم المواطنة والاندماج والإيمان بحتمية الوطن والعيش فيه خلف ظهرها كما حدث في أماكن عديدة من العالم.
فالجنسية من دون الإيمان تجعل اندماج الإنسان بالوطن شكلياً، وهو مايمكن لحاظه في العراق حالياً، خصوصاً مع التهاب حدة الصراع بين فعالياته السياسية التي تتعدد قومياً وعرقياً، فالكل يحمل الجنسية التي تجعلهم ــ واقعياً ــ مواطنين عراقيين، لكن التأثيرات السياسية تجعل المواطنة عندهم في الصف الثاني إن لم يكن الثالث نتيجة تأثرهم بالخطاب المأزوم ، والمرتكز على ولاءات ضيقة بعيداً عن المشتركات الوطنية. وبذلك تكون رومانسية التعددية في البلد ــ بفضل هذه العوامل ــ كابوساً مزعجاً.
المواطنة بين الديموقراطية والعدالة الاجتماعية
هناك علاقة جدلية وحتمية بين الديمقراطية - كمفهوم معاصر ومنتشر- وبين عملية بناء المجتمعات على أسس صحيحة خصوصاً إذا تبنتها المؤسسات المتعددة الاهتمامات والمتبنيات على صعيد الرؤى والأفكار التي تطرحها بهدف تنشئة أجيال خالية من العقد الماضوية، وتتعامل مع الإختلاف الطبيعي بإيجابية وتفاعل بنّاء.
وتعتبر الديموقراطية من أهم مرتكزات شعور المواطن بالمواطنة، وبأهمية دوره تجاه وطنه ومجتمعه، لكن الديموقراطية لا تعني فقط النظام السياسي وحكم الأغلبية والانتخابات بين الأحزاب التي تتنافس على السلطة فحسب ، بل من أهم اشتراطات المواطنة التي تنعم بالديموقراطية تحقيق العدالة الاجتماعية وتحقيق ثلاثية المواطنة / الديموقراطية / العدالة، والعدالة الاجتماعية هي عبارة عن التوزيع العادل والمنصف للثروات، وأن تكون متاحة لكافة الأفراد بصرف النظر عن انتمائهم.
لكن مؤشرات العدالة في مجتمعاتنا الشرقية تؤشر إلى ضعف كبير بسبب تسييس المفاهيم وجعلها في خدمة الإيديلوجيات الحاكمة ومصالحها، فضلا عن أن الثروات تكون في خدمة الحكام وحواشيهم، بينما يمثل الفقر تحدياً كبيراً لبقية الأفراد، وهنا يتجلى الفساد بأوضح تمظهراته على المستويين المالي والإداري.
وقد شكلت ظاهرة الفساد المالي والإداري أيقونة مخيفة تشي بتصدع أو ربما انهيار منظومات القيم الأخلاقية والمجتمعية حتى رغم تباينه واختلافه من مكان لآخر، لكنه يتحد اتجاه مصادرة الاستحقاقات الإنسانية حين ينشئ له مافيات فئوية وحزبية تفتح المجال أمام تنافس غير مشروع قبل أن يتحول إلى ثقافة وسلوك ينتشران كالنار في الهشيم ويجعل الحديث عنه وعن آثاره ضرباً من الترف النقدي والتنظيري مالم ترافق عملية الكتابة والبحث جهود حقيقية تشخص المسببات وتعمل على وضع الحلول والمعالجات لاستئصاله .
وفي كل المراحل الزمنية كان الفساد سبباً لنشاط الحركات المعارضة سياسياً أو نشوط الحركات الاحتجاجية التي تأخذ طابع التمرد المدعوم على مستوى القطعات العسكرية ضد الحكومات التي شيدت أمجادها وامبراطورياتها على حساب استحقاقات الأفراد الذين بدأوا يفقدون أي شعور لهم بالمواطنة والإنتماء ؛ لذلك نلحظ أن أن هذه الحكومات تلجأ دائماً إلى تحصين نفسها عبر الإيغال بنهب الخيرات مستبقة بذلك أية حركات احتجاجية قد تطيح بها فيكون فسادها - عند هذه النقطة - مضاعفاً .
والكثير من الدراسات المختصة أولت الفساد اهتماماً كبيراً وناقشته من الجوانب القانونية والاقتصادية والسياسية أجمعت على أنه ظاهرة مستمرة لايكاد يخلو مجتمع أو نظام من وجودها وآثارها.
وحدد علماء الإجتماع الفساد بانتهاك القواعد المتعلقة بالسلوك القويم ، هذا الإنتهاك في حالة حصوله سيؤدي إلى حالة تتفسخ فيها كل القيم والأعراف بسبب غياب الإتزان والإستقامة للشخص الذي ينتهك هذه القواعد ، أو الشخص الذي يخرق القوانين - الموظف مثلاً - ويستبدلها بآليات عائلية أو عشائرية أو حزبية جاعلاً من الموقع الوظيفي مطية يركبها لأجل المتاجرة الفاسدة وهي (رابحة) بالنسبة له ولنمط تفكيره على مستوى الأفق الزمني المرحلي . ومن الطبيعي أن تكون هناك ردات فعل ستزيد من تعقيدات الوضع الإجتماعي حيث إشاعة الجريمة والتطرف الفكري وغياب المهنية والتلكؤ في أداء المهام الوظيفية وغيرها من أشكال تشويه البنية المغذية للإحتقان المجتمعي ، مايعني الحاجة لصياغات قانونية تدعم الاندماج، وترسخ قيم المواطنة وتطور القيم والسلوكيات وفق النظرة الحديثةن حيث الدراسات والإجراءات الوقائية المستقبلية، وذلك بالتركيز على الأفراد والمؤسسات وعلاقتهما في تطبيق الصياغات القانونية، وتنفيذ آلياتها وتشريعاتها القابلة للتطبيق من دون أية تعقيدات، فضلاً عن اهتمامها بشرائح مهمة كالشباب والمرأة والطفولة، مع عدم إغفال دور المؤسسات الدينية ذي البعد الروحي، ودورها الجوهري في تحقيق السكينة والطمأنينة لأفراد المجتمع.
اضف تعليق