q

بدأ البرنامج بتقرير قصير لامرأة تتحدث عن بعض التوجيهات التي كانت تتلقاها من والدتها ما أدى إلى ارتباكها في الأيام الأولى للزواج من ممارسة العلاقة الجسدية مع زوجها قبل أن تتعود تدريجياً وتنجب طفلاً. غير أن السياق الاعلامي بدا وكأنه يريد الاتجاه لجهة ثانية، حيث أظهر أن هذه التوجيهات منعت تلك المرأة من الاستمتاع بحياة جنسية ممتعة.. وأن السبب يعود للقيود الدينية والاجتماعية التي تمنع الحديث عن الجنس والرغبة في الأوساط العامة، وكأن الحل يكمن في اتاحة الحديث الجنسي في المقاهي والأماكن المختلطة، أو في إدخاله ضمن المناهج المدرسية في وقت مبكر!.

قد يكون الأمرُ طبيعياً بالنسبة لبرامج تتخذ سياقات معينة، أو تريد فرض رؤية مُخالفة ــ على أحسن الظن ــ وتحاول أن إحداث ثورة مجتمعية تنقلب على السائد؛ لكن الغريب هو عملية استدراج التخصصات الانسانية الدقيقة، وجعلها تتحدث بشكل يلائم السياق المتبع من هذه الوسيلة الاعلامية او تلك في مزاوجة غير منسجمة بين الميديا والتخصص.

هنا قد يمكن ومن باب رد الفعل أن يُصار إلى استحداث برامج تعارض توجهات البرنامج الذي نتحدث عنه، وبنفس الآلية يمكن استضافة متخصصين (متدينيين) يقومون بتفنيد ما يذهب إليه زملاؤهم (غير المتدينين) في ذات التخصص الذي ستصير الميديا له ساحة لصراع يشبه صراع الديكة المؤدلجة!

السؤال هنا: من هو الخاسر؟ والجواب طبعاً هو العالم الإنساني الذي يُشغل دائماً ببرمجة رهيبة تحاول أن تمسخ دوره المحوري في الوجود، وثمة أسئلة ستجد لها متسعاً لتتداخل مع السؤال السابق: إلى متى سيستمر هذا الصخب (الانفتاحي) الذي يريد إلغاء دور العقل؟.

الخطر الذي لا نستشعره يكمن في أن مصطلح الانفتاح يُصدر اليوم بأشكال تخدع الإنسان من خلال عناوين براقة يتم الانبهار بقشريتها دون تحمل عناء الخوض في أبعادها، فحرية طرح الآراء وتلاقح الثقافات والقرية الصغيرة والتداخل الحضاري، وغيرها من العناوين؛ تعد مغرية، غير أن الذي لم ننتبه له اليوم هو الهدف المتخفي الساعي لضرب الخصوصيات والهويات من خلال أدق التفاصيل المتعلقة بحياة الإنسان اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً حتى يتم الوصول لثقافة هجينة مبعثرة يسهل من خلالها السيطرة على العالم وتسييره وفق أجندات تجتهد في تخدير الوجود البشري وتغييبه.

شرعنة الفوضى

وعلى ما يبدو فإن نسقاً فوضوياً يسعى لخلط الأوراق من خلال إعطاء الفوضى الفكرية شرعية اعلامية تضبب الواقع أكثر، وضرب منظومة القيم الاخلاقية ببرامج تدعي أنها تحاول الاقتراب من مشاكل الانسان بينما هي تزيد منها بقصدية الهيمنة الفكرية وتوجيهها باتجاه مشاريع معينة تسعى لكساد فكري، وإبعاد الانسان عن منابع المعرفة الحقيقية متخذة من قضية المرأة وتحررها ــ على مستوى الجسد ــ قناعاً تتخفى خلفه تلك المشاريع فضلاً عن أقنعة أخرى كالمثلية الجنسية التي صارت لها قوانين تنظمها في بعض البلدان!

ولا أعرف هل يمكن للجهات التي ترعى هكذا برامج أن تستضيف طبيباً مختصاً بالطب النفسي ليشرح لهم تأثيرات إفشاء الرغبة الجنسية بدون ضوابط، أو جعلها في مناهج التعليم الأولى؟

هل سألوا أنفسهم عن أسباب تكرار حالات الانتحار في أكثر البلدان التي تعيش رخاء اقتصادياً ولا مشاكل لها كما في البلدان المحافظة؟ ولماذا تُحصر قيمة المرأة وحريتها ووجودها في إباحة جسدها؟ كيف سينشأ الصغار اذا تم تعليمهم الثقافة الجنسية في المناهج التدريسية؟

أليست كل هذه الأسئلة تدعو للتوقف عندها، والبحث فيها وصولاً لنتائج تحد من خطورة فوضى الانفتاح الميديوي؟

الند المعرفي

صحيح أن هناك نسبة من التأثر السلبي بهذه البرامج، إلا أن السواد الأعظم مازال محافظاً على قيمه وأخلاقياته.. وذلك لا يعني أن نفرط في التفاؤل ونتغاضى عن واقعنا المفتوح على احتمالات الانفتاح الفوضوي، خصوصا وأن وسائل الميديا تتسارع وتتعدد بشكل مخيف؛ لذلك لابد من رصد المخاطر المستقبلية ومواجهتها بذات الأسلوب، فمثلما تعرض برامج لحرف الأفكار وتهشيم القيم؛ يجب الاهتمام بعرض برامج تحافظ على الأخلاقيات وترسخها عبر المحافظة على اللغة والهوية والدين.. مع التأكيد على أهمية الانفتاح المفيد والنافع لمجتمعاتنا، وأن نعرف كيف نستفاد من التقدم المعلوماتي من دون التنازل عن ثوابتنا وقيمنا، بل يجب أن نظهر أنفسنا وبكل ما نملكه من إرث حضاري وعمق أخلاقي وإنساني بمظهر الند المعرفي، وليس مظهر التابع أو المُقَلِّد الذي لاهم له سوى التماهي مع صيحات الموضة، والتأثر الساذج بأفلام ومسلسلات لم تجد لها سوقاً رائجة غير مجتمعاتنا المبتلية بالبطالة والجهل والعنف وباقي مسببات عدم استقرار الفرد الانساني.

إظهار الند المعرفي يكون بالارتكاز على أهم ما عندنا وغير موجود عندهم، وهو ارتباطنا الفطري بتعاليم الإسلام وقيمه السمحاء التي لم تترك شاردة أو واردة تخص مفصلا من مفاصل الانسانية الا وخاضت فيه، هذا الارتباط لابد أن يتعزز بالعلم والاجتهاد؛ ليكونا سلاحاً يواجه هذه الحملات المنظمة، فالاختصاصات العلمية ليست حكراً على جماعة تتبنى الأفكار والمعتقدات الانفتاحية، فالأصل في كل القضية هو مدى إيمان الانسان برسالته ودوره في الحياة.

اضف تعليق