q

الحرية مفردة أزلية، ملازِمة للرحلة البشرية، لكنها تعرضَّت الى تشويهات لا تعدّ ولا تحصى، ومع أن الإنسان يُخلَق فتُخلَق معه حريته، إلا أن ضريبة العيش الجماعي، فرضَت على الفرد أن يتنازل عن جزء من حريته للمجتمع، مقابل العيش فيه ضمن تفاهمات تأتي في دائرة حزمة من القيم والمعتقدات والنواميس والعادات التي تتشكل ضمن الفاعلية الاجتماعية، فتطول جانبا من الحرية الفردية حتى يستقيم العيش مع الجماعة بلا منغصات.

ولكن بعضهم يفهم الحرية في إطار الإطلاق، فيسعى لتطبيق حرياته من منظور فردي، والفردية تتطاول فيها الأنا وتتغوَّل الذاتية وتغدو الحرية ماردا يصعب احتوائه في حيّز الجماعة، هنا سوف تكشّر الحرية الفردية عن أنيابها، وتشمّر عن سواعدها كي تطال الآخرين ضمن ما يسمى (الحريات الفردية) التي لا يجوز لأحد تحديدها لأنها مخلوقة مع الإنسان بالولادة، هنا سوف تتحول الى مأزق خطير، يسعى الى جعل الحرية مصدر خطر على الآخرين، بحجة أنها هبة ربّانية لا يمكن المساس بها.

وتصبح مقرونة بالضرر، ما حدا بالإسلام أن يربط الحرية بدرجة الخطر الذي ينتج عنها، وإذا انتفى هذا الخطر، فهي حرية مسموح بها مستقاة من أهم مبدأ يرد في تعاليم الدين ( أنت حر ما لم تضر)، بهذه الصيغة أنت مطلق الجناح، الكونُ فضاؤك، طُرْ الى ما شئت في الآماد المتحررة، لكن الأهم أن لا تلحق حريتك الضرر بالآخرين.

يرد قول من هذا القبيل للسيد المرجع صادق الشيرازي، يقارب نظرية الإسلام في إطار الحرية، يقول: (أنت حرّ في كلّ أمورك، في ذهابك ومجيئك وسفرك وعلاقاتك، فلا ضغط ولا جبر ولا إكراه ولا كبت للحرية في الإسلام/ المصدر: كتاب الحرية في الإسلام). ثم يأتي الأهم (ما لم تضرّ)، فحريتك متاحة ومباحة ضمن حدود عدم إلحاق الضرر بمن يتقاسم معك الأرض والمكان والموارد والزمان.

فبرز ذلك الصراع الدامي بين الحرية ونقيضها، وانطوى التاريخ البشري على تلك المحافل الكبرى للموت، والقتل، في تصادم ذي أوار محتدم وحمأة متأججة، حرقت مئات الملايين من الأنفس، في القتال الأبدي بين الحرية الحق ومحاولات استعباد الناس، كما فعل الجبابرة وطغاة التاريخ، ليس بين العرب وحدهم، ولا بين المسلمين حصرا، إنما عرضت لنا شاشة التاريخ وذاكرة الأمم الأخرى وقائع دموية وقودها حرية الإنسان المفقودة.

وجلّ ما كان يدور في هذا المدار، صراع الإنسان الحر لدرأ خطر الاستعباد، خصوصا من الحكام الطغاة، حتى الغرب المتبجّح، كان مرتعا لأتون مستعرة أكلت الأخضر واليابس، عندما جيّرها المستعبِدون لما يرغبون، فتهرّأت الحريات، وأُهدِرت الحقوق، وتنمَّر عتاة السلطة الباغية، وطالت يد الظلم مصابيح العلم والعلماء، حدث هذا في الغرب، فتم استباحة حرية العالِم وأعلنت الحروب عليهم، ومُزقت أحلامهم وحقوقهم واندثرت حرياتهم تحت جحيم الاستعباد السلطوي، فلا علم ولا فكر مسموح به غير أفكار محركي محاكم التفتيش الكنسية.

بإمكاننا أن نستطلع بعض الصور والمواقف التي تشرح تلك الأوضاع الخطيرة التي كانت تنتهك أبسط حقوق العالِم، حيث نجد هذه الصورة أو مجموعة الصور فيما يقوله السيد صادق الحسيني الشيرازي: (في القرون الوسطى كان العالِم في الغرب يُقتل لمجرّد إبداء رأيه في قضية ما وإن كانت علمية محضة لا علاقة لها بالدين وتشريعاته! فقتلوا القائل بكروية الأرض، وكذلك الرجل الذي ترجم الكتاب المسمّى عندهم بالمقدّس؛ فقد كان هذا الكتاب حكراً على رجال الكنيسة فقط ولا يعرف لغته غيرهم/ المصدر نفسه).

هل تحولت الحرية الى مأزق؟، الجواب بلى، فعندما يبتكر العالِم نظرية ما، وينجح في تعزيز ابتكاره، كما حصل مع غاليلو وقصته المعروفة التي اثبت فيها أن الأرض كروية الشكل، ثارت ثائرة الكنيسة، واعتبرت هذا الاكتشاف نوعا من (الهرطقة) والكفر، وتم إلقاء القبض على صاحب الاكتشاف المخالِف، ونُصبت له محاكم التفتيش، وحُكم عليه بالإعدام، وما كان يحدث هذا لو لا الطغيان، وربما ما كان يحقق هذا العالِم ما توصّل إليه لو لا استخدامه لجانب من حرية الذكاء والتفكير، فكانت النتائج مغايرة، وقامعة للحريات، وقاتلة للعلم والعلماء.

هذا التصادم والإقصاء للحرية والعلم والعلماء، كان يحدث في الغرب، فيما كان الإسلام قد بدأ في بناء دولة المسلمين العظمى، فاتحا الآفاق على مصراعيها للمبدعين والمبتكرين، سامحا للحرية أن تأخذ مداها الأقصى، دون أن يكون هناك تصادم أو تقتير، ولكن ثمة اشتراط لا يمكن إهماله، إنه ذلك الاشتراط الذي يمنح الحرية نكهة عظيمة، نكهة النجاح والانطلاق في نظريات العلم دون عوائق، ذلك هو عدم التسبب بالضرر للآخرين، فأنت لك كل الحق في استخدام الحرية الفردية، على أن تكون حدودها إفادة الآخر وليس المساس به أو حقوقه.

مما مضى من القول، نفهم بأن (الحرية التي يمنحها الإسلام في مختلف المجالات ليس لها نظير ولا شيء يقرب منها في تاريخ العالَم حتى في هذا اليوم المسمّى بعصر الحريات/ السيد المرجع صادق الشيرازي/ المصدر نفسه). ونحن هنا نرد على تلك الأقوال المغرضة التي لطالما سعت وتسعى لربط الاستعباد بالإسلام، فيما العكس هو الصحيح بالتمام والكمال، تلك صورة الغرب وكيف كان يتعامل في الإطار، وهذه صورة مبادئ الإسلام مثبتة بالأسانيد التي لا تقبل الخطأ من حيث ثبوتية المصدر ودرجة الثقة العلمية المستقى منه.

في هذه الحالة لسنا حيال مأزق، ولا نعاني من شعور بالقطيعة مع مفهوم التحرر، وما علينا التمسك به هو أن نتحلى ونتشبث بحرياتنا، ولكن مع حفظ حقوق الآخر، لا أن تكون هذه الحريات آخذة من حقوق الآخر ومتعدية عليه بهذه الصيغة أو تلك، نعم حين تلحق حريتنا الضرر بالناس سوف تكون مأزقا علينا التعامل معه بسرعة ودقة واحتكام للعقل والضمير المتنوّر.

نحن نسعى لحماية الحرية، نستأنس بها، نرعاها وترعانا، كانت وستبقى لباس لنا، وكمّا وسنبقى دعاة وحماة لها، نعمل ونأمل أن لا تتحول الى مأزق في عالم اليوم، ونفكر ونفهم بأن خروج الحرية الفردية عن حدودها، سيقصي أهم شرط يحميها من الانحراف، ذلك هو شرط حماية حقوق الآخر، وهذا بالضبط ما يتكفَّل بجعل الإنسان (حر لا يضر).

اضف تعليق