محمد الأديب
ليس هناك ما يؤكد أن الإنسان يولد إرهابياً بالفطرة، إنما الإرهاب سلوك تصنعه البيئة الثقافية - الاجتماعية، كما لسنا بحاجة إلى دليل على أن الإرهاب الذي يرفع "راية الشهادتين" ليس وليد القرن العشرين أو الواحد والعشرين، بل هو سلوك قديم يرجع إلى الصدر الأول من تاريخ المسلمين (وليس تاريخ الإسلام). ولو جاز اختزال أفعال الإرهابيين بأقبحها وأكثرها رعباً، لكان في (قطع رأس الضحية)، وهو أكثر ما "يتباهى" به اليوم الإرهابيون في العراق وسوريا وليبيا، على يد عصابات داعش والقاعدة وطالبان وبوكو حرام وغيرها، وهذا الفعل الإجرامي (قطع الرؤوس) عندهم من علامات الإيمان والإخلاص، فمن يذبح عشرة من الروافض "يتأهل" لمرتبة "أمير".
وبناءا على ذلك الاختزال الوصفي، من الممكن القول، أن بوادر الإرهاب في تاريخ المسلمين، قد ظهرت بعد أيام قلائل من وفاة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، فقد ذكر عدد من المؤرخين، أن قائد جيش المسلمين في حروب الردة، قتل مالك بن نويرة وعدداً كبيراً من أبناء قومه، رغم إقرارهم بالشهادتين، وتزوج من أرملته، أم تميم، في اليوم نفسه الذي قُتل فيه. وأمر برؤوس بعض القتلى لتنصب أثافي، (الأثافي: صخور توضع تحت القدور)، ومنها رأس مالك، والسبب فيما يروي الزبير بن بكار عن شهاب، في الإصابة، أن مالك بن نويرة كان كثير شعر الرأس، فلما قتل أمر خالد برأسه فنصب أثفية، فنضج ما فيها قبل أن تخلص النار إلى شؤون رأسه (الإصابة 3/337، وابن كثير 6/322، وأبو الفدا/158). ولم يتخذ أبو بكر أي إجراء بحق من قتل وهتك، بل ظل قائداً لجيوش المسلمين في حرب الشام حتّى موته (أبو بكر)، ومجيء عمر بن الخطاب الذي اكتفى بعزله عن القيادة.
ويذكر التاريخ أن معاوية بن أبي سفيان أول من قطع رأس مسلم، وحمله من بلد إلى بلد، فقد أمر عامله في الموصل بقتل الصحابي (عمرو بن الحمق الخزاعي)، وإرسال رأسه إلى الشام، بعد أن ألقى بزوجته في السجن، وهي أول مسلمة تسجن بسبب أن زوجها من المعارضين للحزب الأموي.
بعدها جاءت واقعة مسلم بن عقيل وهاني بن عروة، حيث تم ربطهما بحبل، وسحلا في شوارع الكوفة، تشفياً بهما، وإرعاباً للناس، وقد حدثت تلك الجريمة المفجعة بأمر من عبيد الله بن زياد والي يزيد بن معاوية بن أبي سفيان.
ثم كانت نهضة الدم والشهادة في كربلاء، وقد قطع رأس آخر ابن بنت نبي على وجه الأرض، يقول الإمام الصادق (عليه السلام): (وجد بالحسين حين قتل ثلاث وثلاثون طعنة، وأربع وثلاثون ضربة، قال: وجعل سنان بن أنس لا يدنو أحد من الحسين إلا شد عليه مخافة أن يغلب على رأسه، حتى أخذ رأس الحسين فدفعه إلى خوليّ).
ويقول الإمام الرضا (عليه السلام): (يا ابن شبيب إن كنت باكياً لشيء فابك للحسين بن علي بن أبي طالب، فإنه ذبح كما يُذبح الكبش، وقُتل معه من أهل بيته ثمانية عشر رجلاً، مالهم في الأرض شبيهون). وقد شارك بعملية الذبح الجماعية، أبناء صحابة، وتحت أنظار صحابة، وهو عين ما أخبر به رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ففي ساعة ولادة الحسين (عليه السلام)، ذكر (صلى الله عليه وآله) ما سيجري على سبطه في عاشوراء، وفي مرات أُخر، أكد (صلى الله عليه وآله) الحدث بموعده ومكانه، فها هي أم سلمة تستمع إلى النبي (صلى الله عليه وآله) والحسين في حجره، أن جبريل قد أخبره بمقتل الحسين قائلاً: (إن أمتك ستقتل هذا)، فقال (صلى الله عليه وآله) لجبريل: (يقتلونه وهم مؤمنون بي). قال: (نعم يقتلونه).
وتواصلت عمليات قطع الرؤوس، فقد رمى هشام بن عبد الملك رأس زيد بن علي في حجر أمه، ورمى أبو جعفر المنصور رأس إبراهيم أخي ذي النفس الزكية في حجر والده عبد الله بن الحسن، وصولاً إلى اليوم، حيث العالم يرى يومياً بالصوت والصورة احتفالات "المجاهدين" بقطع رؤوس أطفال وشباب وكهول في العراق وسوريا، فقد استباحت تنظيمات "إسلامية" مسلحة الإنسان والمكان، فلا حرمة لإنسان ولا لمكان، كما لا حدود في القتل والقسوة، فعادة ما يتعرض الضحايا إلى أبشع أنواع التعذيب، ثم يجري تفريغ كامل القوة العنيفة على الرأس، سواء أكان ذبحاً أو نحراً بسيف أو سكين، أو قطعاً بالمنشار الكهربائي، أو تحطيماً بالرمي من البنايات العالية، أو حرق الرأس بعد قطعه ثم يعلق على أعمدة الكهرباء، فضلاً عن قتل مجموعة من الناس في وقت واحد، من خلال تفجير السيارات الملغمة أو الأجساد المفخخة، هذا فضلاً عن أعمال اغتصاب النساء، ونهب الأموال، وتدمير الممتلكات الخاصة والعامة.
إن الدوافع التي تقود إلى ظهور الإرهاب، تكمن في مجموعة من المبررات التي يدعى أنها دينية، فهم يبررون سلوكهم الإرهابي بالقرآن والسنة النبوية وسيرة صحابة. لذلك، فإن مشكلة الإرهاب التكفيري لا تنحصر في تنظيمات متطرفة، وإنما تتسع إلى ما هو أكبر، وذلك لأن لب مشكلة الإرهاب التكفيري تكمن في أنها تستند إلى أساس فقهي واضح وصريح، حيث إن مصادر تشريعه وأساسيات فقهه موجودة أصلاً في كتابات كبار أئمتهم وفقهائهم، من أمثال ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب، وهذه الكتابات تقدم إلى الناس على أنها المنهج الذي كان عليه النبي (صلى الله عليه وآله) وصحابته والسلف الصالح.
إن الأفكار والفتاوى المنتجة للفعل الإرهابي الذي يجتاح العالم، تتركز في بلدان يصفها المجتمع الدولي بـ"المعتدلة"، وإن هذه الدول أبعدت الإرهاب عن ساحاتها وأخذت بتصديره إلى دول أخرى، مستغلة الموارد الكبيرة التي تحت يدها، وبتداخل المصالح الدينية والسياسية في إطار مجتمعي متخم بالأزمات الثقافية والحياتية.
إن الإرهاب إشكالية معقدة ومتعددة الأبعاد، الأمر الذي يستوجب أن تكون آليات مكافحة الإرهاب مركبة وشاملة، كي تأخذ في الحسبان مختلف العوامل التي أدى تضافرها إلى تفاقم مشكلة الإرهاب. وإن أول الطريق لتحقيق الانتصار على الإرهاب، تسمية الأفكار المؤسسة والدافعة للإرهاب بأسمائها، وتشخيص أصولها الفقهية بوضوح للأمة، فإن الاكتفاء بإدانة العمليات الإرهابية لا يكفي، بل لابد من أن يستكمل ذلك بإدانة فقه أئمة الإرهاب، من أجل تجريم هذا "الفقه" التدميري، وأصحاب هذا الفقه يقولون: "الدين لا ينتصر إلا بالأشلاء"، وقد قتلوا - في أقل من عشر سنوات - أكثر من ربع مليون شيعي في العراق وسوريا وأفغانستان وباكستان، وبالتالي، فإن للإرهاب دين، يستند إلى فقه يُتعبَد به، وتاريخ يبرر قتل ملايين الناس، كما برر قتل سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) الذي قال فيه جده نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله): (حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسيناً).
اضف تعليق