قبل الخوض في قضية العنف العالمي المتشظي إلى مسميات متعددة، وتأثيرات العولمة عليه من جهة ارتباطها بالتطرف؛ لابد من فهم عميق لجوهر العلاقة بين مفهومين أساسيين قد ينتجان عنفاً بصورة أو بأخرى. وهذان المفهومان هما : الراديكالية والتطرف.
والراديكالية لفظ مشتق من الكلمة (Radix) وهي كلمة لاتينية الأصل معناها الجذر. وقد حضر هذا المفهوم في الأدبيات السياسية كصفة تطلق على الأحزاب التي تعتقد بضرورة التغيير في شأن مُعين يخص المجتمعات على أن يكون التغييرُ جذرياً. ويرى مفكرون أن تطور الرأسمالية وترسيخ الإيديولوجيا الليبرالية؛ كانا من أهم أسباب الذوبان الراديكالي في اللبرلة سواء كانت في الأحزاب اليمينية المتشددة في قضايا القومية والعنصرية العرقية، أو في الأحزاب اليسارية ذات النزعة الأممية.
لكن هناك معنى أخر للراديكالية قبل مرحلة تطور المفهوم، يميل للتشدد في الرأي والبقاء على القوالب الفكرية القديمة، ومنها صيغ معنى العنف أو الإرهاب الراديكالي، وحاول الغرب إلصاقه بالإسلام رغم أن جذوره الأولى غربية، وقد صرح بذلك المستشرق البريطاني (هومي بابا) بقوله:" إن الراديكالية كلمة ذات دلالات سلبية تلصق بالعالم الإسلامي، مع أن الظاهرة عالمية لاتقصر على ماكان يسمى دول العالم الثالث مثل الهند ومصر، بل وجدت طريقها إلى العالم الأول حيث الراديكالية الإنجيلية على أشدها في الولايات المتحدة الأمريكية مثلاً ". وفي الحقيقة أن الراديكالية اليوم خليط من الفكرتين، فهي تمثل البحث في جذور المشكلات الأصلية تمهيداً للتغيير المنشود، وفي ذات الوقت تمثل تشدداً ناعماً يتخفى خلف قناع العولمة، لتحقيق غايات تغلب عليها الإيديولوجيا، مايعني إمكانية انتاجها عنفاً مُزججاً لايُرى، لكنه عنف بالمحصلة.
أما التطرف، فهو يشير إلى قضايا الانغلاق والابتعاد عن الاعتدال والمنهجية الوسطية، فضلاً عن التمسك بالمتبنيات الفكرية والتشدد في البقاء عليها حتى مع الاعتقاد بضرورة تغييرها. والتطرف هنا يتناقض مع مفهوم الراديكالية، وفيه خروج على القيم والمعايير الانسانية، مايتيح للأفراد انتاج العنف بشكل فردي أوجماعي متخذاً أشكالاً فكرية واجتماعية ودينية، وهذه الثالثة من أخطر تمظهرات التطرف؛ لارتباطها بالعقائد الدينية، وهي بمثابة الخط الأحمر الذي لاخروج عليه ، وهو ماظهر بوضوح على الساحة العالمية بعد تفكك المعسكر الشيوعي وبروز الجماعات التكفيرية المتطرفة كتنظيم طالبان والقاعدة وداعش وبوكو حرام، والتي ترك وجودها على الأحداث العالمية تداعيات سلبية عبر ممارسات عنفية خطيرة.
الآن، كيف لنا استكشاف العلاقة بين العولمة والتطرف؟ وماهي الإسقاطات التي أسقطتها العولمة على التطرف؟ وللإجابة نحتاج إلى تأكيد أن الحياة الإنسانية تتشكل من مجموعة من القيم، وتبرز القيمة الدينية كثابت حضوري فاعل في تشكل عناصر الثقافة والحضارة لدى المجتمعات. والقيم الدينية اليوم صارت جزءاً من انتشار الثقافات وتبادلها بين المجتمعات، ومن الطبيعي القول أن التقنيات الحديثة ووسائل الاتصال السريعة التي أتاحتها العولمة؛ هي السبب الرئيس في انتشار هذه القيم بين الثقافات والحضارات المختلفة.
إذن لعبت العولمة الثقافية دوراً كبيراً في انتشار القيم الدينية، خصوصاً تلك التي تحمل سمات التطرف، وهذا طبعاً لم يأت من قبيل المصادفة، بل هو أمر مبرمج وخاضع لمنهجية؛ بهدف إبقاء هذه القيم في حيز النظرة الضيقة، ومن ثم إبقاء الثقافة الغربية هي السائدة والمتحكمة في العقول والأمزجة ومن ذات الطريق (العولمة).
كما أن العولمة الثقافية تحرص على إبراز اللامع والبراق من العالم الغربي متغاضية عن سلبياته الكثيرة، فتجعل الهجرة للبلدان الغربية هدفاً لكثير من الشرقيين الهاربين من جحيم الحروب وصدام الهويات، وصعوبة العيش نتيجة التراكمات الاقتصادية في البلدان الفقيرة، وهو ماتؤكده النسب المخيفة للمهاجرين. وهنا تبرز مجدداً إشكالية انماج الأقليات المهاجرة في المجتمعات التي استقبلتها، خصوصاً في الظرف الزمني الراهن الذي يشير إلى تقدم يميني ينحاز لخصوصيته القومية والعرقية، وينظر بعدائية للأجانب الوافدين، وهكذا تتأصل مشاعر الكراهية بين الطرفين، وهذا التأصيل كفيل إشعال جذوة التطرف وصولاً لسلوكيات عنفية.
وهكذا نصل إلى نتيجة أن العولمة بتعدد أشكالها؛ تعمل على تشظية سياسية واقتصادية وثقافية، تمهيداً لمشروع أكبر يتمثل في لملمة المتشظي من هذه القيم، ثم تبدأ عملية إعادة الانتاج، ثم وضع المنتج العولمي في دائرة خاضعة لسلطتها، فتزيد حالات الاغتراب البشري، ويتعزز الشعور الوجودي باللاجدوى، قبل أن يتحول الاغتراب إلى يقين مضطرب بضرورة استعادة ماتم فقدانه من خصوصية وهوية، فتتكون الجماعات والتيارات يجمعها هاجس الضياع على مائدة مضببة ومأزومة.
لكل هذه المعطيات، لابد من تكثيف الجهود البحثية الراصدة لخطر التداخل بين الراديكالية والتطرف بمباركة عولمية، وذلك يكون من خلال استقلالية فكرية تتيح حرية العقل، وتمكنه من تفعيل الممارسات النقدية، وذلك بعدم إخضاعه لسلطات الإيديولوجيات المتصارعة من أجل البقاء على حساب كرامة الإنسان ووجوده.
والممارسة النقدية عبر العقل المتحرر؛ تحتاج لآليات تقف في الوسط من عملية صراع الأضداد المتنافرة في حيز من الوجود البشري الملتهب. إنَّ التبعية التي يخضع لها العقل باستسلامه للنزعات المادية، ولمنطق تذويب الهويات والخصوصيات في المادة، وإلغاء العقائد، والانقياد اللاعقلاني لسلطة تجرد العقل ذاته من وظيفته؛ ستكون لها التأثيرات الخطيرة التي ينبغي التصدي لها، والوقوف على مسبباتها سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، ثم الانطلاق لمرحلة العلاج بالصيغ التي لاتبتر العلائق مع المعاصرة، أما الاكتفاء بالتنظير سيفضي إلى قول الشاعر: (وفَسَّرَ الماءَ بعدَ الجهدِ بالماءِ).
اضف تعليق