• تماسك الشيعة:
لكي تقوى أي جماعة وتتفوق على التحديات التي تعصف بها والأعداء المحيطين بها، فإنها بحاجة إلى أن تكون متماسكة مع بعضها البعض حتى لا تفقد هويتها قدرتها على جمع وتحريك المنتمين نحو الأهداف المشتركة. وكلما ازدادت درجة التماسك، ازدادت الجماعة صلابة وحيوية، وهذا لا يعني إلغاء التعددية أو غياب الاختلافات وحتى الخلافات، لكنه يعني أن لا يصل التفكك لمرحلة يستحيل فيها عمل المنتمين جنبًا إلى جنب فيما فيه صالح الجماعة.
ولحيوية هذا العنصر، فإنه من الضروري تحليل أثر أي ممارسة عليه –خصوصًا الممارسات العامة والجماعية-، ومن هذه الزاوية نرى عنصر أهمية آخر للشعائر الحسينية حيث تسهم في تماسك الطائفة الشيعية وإن ظهرت بعض الاختلافات وعززتها بعض الجهات لمغازٍ سياسية إلا أن ذلك لا يضر تماسك الطائفة عند المنحنيات المصيرية كما شهد العالم عندما واجه شيعة العراق تحديدًا خطر تنظيم داعش الإرهابي امتثالاً لفتوى المرجعية الدينية كأنهم بنيان مرصوص رغم الاختلافات والتصدعات.
وهنا نجد أن "عشرة عاشوراء هي أكثر اللحظات كثافة وجدانية ومعنوية في حياة الجماعة الإسلامية الشيعية، حيث يعيش أعضاؤها خبرات روحية عميقة ويجددون معنى انتمائهم إلى الجماعة ويوطدون عرى تضامنهم"[1]. وقد عنون (بندكتي) الفصل السادس من كتابه بعنوان "الاحتفالات الحسينية إحياء للوعي الجماعي" ومن جملة ما ذكره في هذا المضمار: "الوظيفة الكامنة التي تؤديها الاحتفالات في حياة المجتمع.. في تقوية الخبرة الدينية الوجدانية عند المحتفلين وتعميق شعورهم بالانتماء إلى مجتمعهم المحلي الذي يظهر لهم من خلال الشعائر بمثابة زمرة مرجعية دينية-سياسية متكاملة.. بقيت هذه الجماعة في أثناء.. السنة.. مطمورة في مستوى الفكر اللاواعي، أما في هذه اللحظات الاحتفالية فقد ظهرت في مستوى الفكر الواعي، فتحولت إلى خبرة روحية معاشة.. إن خبرة تيقظ الوعي هذه تهيئ هؤلاء المحتفلين وتجعلهم أكثر استعدادًا للالتزام بما يعتبرونه مصلحة زمرتهم"[2].
ويمثّل الباحث على هذا بمقدار الاستعدادات الجماعية التي تستبق الحدث الشعائري بعدة شهور، وتحمُّل تكاليف وأعباء الشعائر جماعيًّا ولو بأقل القليل، واعتبار المشاركة فيها مهما صغرت أنها شرف للفرد والعائلة.
ويضيف: "يغلب على هذه الشعائر التذكارية مناخ جماعي كثيف، فيغوص هؤلاء في حماس جماعي ويستغرقون في الشعور العميق بالتضامن مما يفضي بهم إلى حالة من الوحدة الوجدانية وكأنهم يشكلون بنيانًا واحدًا.. ثم يعيش المحتفلون خبرة الانتماء إلى الجماعة الإسلامية الشيعية الواسعة. فهم إذ يشعرون بالتضامن العميق مع (شهيد كربلاء) إنما يتحولون في مخيالهم إلى جماعته، وذلك بفعل الإقامة الجماعية للشعائر"[3].
ومما يزيد في فاعلية الشعائر في هذا المضمار هو جذبها لجميع شرائح وفئات المجتمع –لا سيما الشباب- بشكل لا يضاهيه أي أمر آخر، ولوضوح هذا العنصر الإضافي في قوة الشعائر، رصده الباحثون الأجانب حتى في التجمعات الشيعية التي تعيش في البلاد غير المسلمة. فهذه (وولبريدج) تعبر عن هذه الملاحظة قائلة: "هذه الشعائر متفردة قوية تجلب اللحظات التاريخية للحياة وتجذب الناس للمساجد كما لا تفعل أي مناسبة دينية أخرى"[4].
ويؤكد (تاكيم): "النساء والأطفال أيضًا يحضرون محاضرات محرم. إنهم عادة لا يحضرون الصلوات اليومية أو أيام الجمعة، وبالتالي فإن المجالس توفر مصدرًا تعليميًّا إضافيًّا لشريحة مهمة من المجتمع الشيعي"[5].
وهنا، يلفت سماحة السيد طاهر الشميمي "إلى الدور العظيم الذي تحمّله ولا يزال يتحمّله المنبر الحسيني في النهضة الثقافية حيث يعتبر من أهم ركائز الثقافة الشيعية، مشيرًا إلى أن الأديان والمذاهب الأخرى وخصوصاً الكنيسة المسيحية تعرف مدى قوّة وتأثير المنبر الحسيني كمدرسة وجامعة يتربّى فيها الفرد الشيعي منذ نعومة أظفاره إلى آخر أيام شيخوخته، ويستمر هذا المنبر في عطائه الثقافي على مدار العام وقد يكون بشكل يومي حتى في أصغر المناطق وأفقرها مما يشكّل رصيداً علمياً هائلاً لأتباع مذهب أهل البيت -صلوات الله عليهم-"[6].
• استحضار وإحياء واستمرارية روح المقاومة:
تفخر جميع المجتمعات الحيَّة بتاريخها في مقاومة العدوان والفساد والطغيان والأفكار الهدّامة، وتسعى لإبقاء هذه الذاكرة حيَّة وماثلة في الأجيال المتلاحقة ليتم تفعيلها عند الضرورة، وهذا جزء مما تقوم –بل تتميز- به الشعائر الحسينية. ولعل ما يبرز في طريقة إحياء الشعائر الحسينية لقيمة المقاومة للباطل أنها تتجاوز مرحلة (الاستذكار) لترقى إلى مستوى (الاستحضار) الحي المحسوس لهذه القيم والأحداث ليس في ذاكرة الأمة فقط، بل تخلق فرصة ليستشعر المقيم للشعائر ببعض فصول هذه التجربة بشكل شبه واقعي، مما يسهّل ويقرّب عملية تطبيق هذه القيم في الواقع المعاش في الظروف الملائمة.
ومما تركز عليه هذه الشعائر كمصاديق للباطل الذي لا يجب التسامح معه ولا التهاون في مقاومته مهما كلف الأمر: الإسلام المزيّف حيث أن تصريح الإمام الحسين –عليه السلام- يبيّن أن الهدف من نهضته هو إحياء الإسلام الصحيح الذي جاء به جده –صلى الله عليه وآله- وأبوه -عليه السلام-، الطغيان الداخلي –في قبال حصر علماء البلاط تركيزهم على العدو الخارجي واصطناع الحروب-، الجرائم الاجتماعية كخذلان المبادئ وخيانة الأمانة العلمية وانتهاك الحقوق واللؤم، القيادة المنحرفة أو غير المؤهلة للمجتمع الإسلامي، وتشكل هذه الأمور الشق الثاني من هدف ثورة الإمام الحسين –عليه السلام- الذي عبَّر عنه بقوله: (إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدّي)[7].
فالشعائر، إذَا، توظّف العاطفة والأحداث التاريخية لخدمة القيم الانسانية في نصرة الحق ومقاومة الظلم في التاريخ وفي الحاضر والمستقبل.
"لقد تحول الحسين واستشهاده إلى رسالة يحييها المسلمون الشيعة بواسطة الرموز الشعائرية العاشورائية، فيَحيا الحدث التاريخي ويتحول إلى حادثة معاشة وخبرة فكرية-روحية حية. إن إحياء الذكرى خبرة ذهنية تستحضر الحدث الماضي بقوة الرموز الطقسية فتضفي عليه معاني جديدة في سياق الحاضر"[8].
"إن فكرتي الحق ومقاومة الظلم في مركز اهتمام الفكر الشيعي.. يُبرِز هذا الخطاب أولاً أن مصير الشيعة التاريخي –منذ مأساة كربلاء وحتى الوقت الحاضر- يتلخص في مقاومة الظلم والنضال من أجل الحق.. إن هذه النظرة الصراعية تشكل الإطار التصوري الشيعي للتاريخ.. وهذه النظرة.. هي الكفيلة بتماسك الزمرة المرجعية الشيعية. بفعل هذه الخبرة الوجدانية ]الشعائرية[ يتحول الأفراد المحتفلون إلى أعضاء تشكيلة اجتماعية-نفسية فيتشكل فيهم ذلك البنيان المرصوص"[9].
"ومما يلفت الانتباه أن الخطاب العاشورائي يقيم ارتباطًا ضمنيًّا بين موضوعتي الشعائر والمقاومة إذ تعتبر هذه الأخيرة طريقة من طرق الدفاع عن الهوية. وهكذا تشكل موضوعة الهوية الرابطة بين موضوعتي الشعائر والمقاومة"[10].
"هذه الاحتفالات أتاحت لأتباع الحسين ليشعروا بحس المشاركة مع شهيدهم القديس في النضال ضد الظلم"[11].
اضف تعليق