لعب أدب المرثيات الحسينية منذ استشهاد الإمام الحسين عليه السلام دوره في إدامة ذكر هذه الملحمة الإنسانية، وذلك عبر أيقونات تعددت وأخذت منحى وجداني عاطفي تارة، وآخر فكري وتأملي يتساوق مع العصرنة غير قافز على ثوابت القضية الكبيرة.
وقد بدأت حالات التأمل وتفجر المخيال مبكراً في الأدب العاشورائي، بل إننا حتى في الزيارة الواردة عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام نقرأ هذه الجملة هائلة الخيال عميقة المعنى والبلاغة والدلالة : " أشهد أن دمك سكن الخلد، واقشعرَّت له أظِلَّةُ العرش "، هذه الجملة وردت في زيارة وليست في قطعة أدبية من جنس من أجناس الأدب مايؤكد القيمة العالية لواقعة كربلاء التي يمكن ان يتم الإقتراب من مضامينها فكراً وتأملاً ، وهكذا فعل الأدب ممثلاً بأشعار المراثي الحسينية التي ظلت راسخة رغم مرور كل هذه المدة الطويلة، بل أن كثير من الأحداث التأريخية صارت لها آداب خاصة بها، لكنها لم تترسخ كما أدب المرثيات الحسينية حتى عبّر أحد المختصين قائلاً: " مازال الشعر كوفياً رافضياً "، ودلالة الكوفة في هذا النص إشارة لخصوصية الشعر العراقي و الطريقة العراقية في تأجيج مشاعر الحزن على سيد الشهداء، تلك الخصوصية المغلفة بمسحة حزن متفردة تستمد من فاجعة كربلاء ديمومة فعلت فعلها منتجة من الصور والأفكار المتجددة الشيء الكثير.
وقد أحدث الأدب الحسيني بشقيه الكلاسيكي والحداثي توازناً في عملية إيصال أبعاد نهضة الإمام الحسين عليه السلام إلى الأجيال المتلاحقة، وبما أننا في موضوعنا هذا نسلط الضوء على الشق الثاني و نقصد به الحداثي، سنحاول أن نتعرف عن كيفية تعامل مفهوم التجديد مع قضية كربلاء وكيف أنتج أدباً رصيناً وفكراً متجذراً.
الإتجاه الفكري بين الأدب والمنبر الحسيني
يؤكد الدكتور علي حسين يوسف في كتابه (الإمام الحسين في الشعر العراقي الحديث)، أن اتجاهات التجديد في أدب الطف ساد مطلع القرن العشرين، بحيث أن هذه الإتجاهات تجاورت مع الإتجاه التقليدي العام الذي عرفت به المرثيات الحسينية التي كانت تركز على سرد تفاصيل الواقعة، مقتصرة على هذا السرد العاشورائي في تأجيج مشاعر الحزن وتفجير العواطف، بينما عمل الإتجاه الفكري على تحفيز الضمير الإنساني على رفض منطق الجور والظلم، من خلال ثيمة الطف ومعاني العز والكبرياء في هذه الملحمة العظيمة لتصير نداءات متواصلة للتحرر كما نقرأ في أبيات للشاعر طالب الحيدري:
دَمُ الإمامِ الشهيدِ نورٌ… لنا، وتأريخه نشيدُ
تصيحُ أيّامه علينا: … تحرروا أيها العبيدُ
وفي أبيات أخرى للشاعر إبراهيم الوائلي، نجده يستغيث بالحسين الشهيد مستنفراً الحرف من أجل قول الحق بعد أن عبثت قيم الضلال به فيقول:
صِهْرَ النبوّةِ إنَّ العدلَ قد عَبَثَتْ
به المطامعُ واجتاحته أهواءُ
قُلْ للكتائبِ تنهضْ من مراقدِها
فقد خلت من صهيل الخيل بيداءُ
ومن هذين المثلين الشعريين يمكن أن نستدل على معنى (الحسين عَبرة وعِبرة) فهو قيمة للتفكر في ذات الوقت الذي سيظل جذوة حزن لاتنطفئ كان قد أشار لبقائها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بقوله :" إن لقتل ولدي الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لن تنطفئ "، غير أن هذه الحرارة تتجدد بآليات جديدة ومعاصرة محافظة على ولائها وتمسكها بقيمة الرمز الحسيني العظيم. بل أن الإتجاه الفكري لأدب عاشوراء حضر كذلك في القصائد المنبرية التي يرددها المنشدون كما في القصيدة الشعبية الخالدة (ياحسين بضمايرنا) والتي قدمت واقعة كربلاء بكل تنويعاتها عبرة وفكرة وثورة بكلمات دارجة بسيطة وعفوية من السهل الممتنع.
هذا الإتجاه لم يقتصر على الأدب فقط، فقد انتقل إلى الطقوس الأخرى ومنها وأهمها خطب المنبر الحسيني عبر محاضرات الخطباء في عاشوراء والتي تمتد إلى مناسبات أخرى خارج شهري عاشوراء وصفر بوصف المنبر الحسيني من أقوى وسائل التفاعل مع القضية، فمع كل هذه المستجدات في الحياة المعاصرة، حافظ المنبر الحسيني على أصالته وأساسه المتين، حتى مع صعود جيل جديد من الخطباء الحسينيين، ومع ترسيخ مفاهيم عميقة عبر هذا المنبر الذي صار زاجلاً فكرياً يوصل رسائله بكل تلقائية وسهولة وعمق.
في كتابه (تجاربي مع المنبر)، يركز المجدد الشيرازي الثاني (قدس سره) على مسائل مهمة لابد للخطيب أن يلتفت إليها حين يلتقي بجمهوره الحسيني الكبير، ومن هذه المسائل مايتعلق بموضوعة القيمة الفكرية التي نتحدث عنها هنا، هذه المسائل هي: الإطلاع على الأحداث الحاضرة، ورعاية مبدأ الأهم و المهم، والتنوع ضمن وحدة الموضوع.
لعل أهم شيء يمكن أن تقدم به الأفكار بصورة واضحة وغير مضببة، هو المعرفة والوعي بالحاضر وأحداثه، والتسلسل في إعطاء الأولوية الفكرية من الأهم إلى المهم؛ لضمان استمرار الإنشاد الروحي والعقلي للمتلقي وإيصال الفكرة ناضجة، مع التشديد والإجتهاد على طرحها بأشكال متنوعة مع الإعتناء بوحدة الموضوع الأصلي.
الاتجاه التأملي
يُعرَّف التأمل بأنه دربة نفسية لإنتاج موقف يسبقه استعداد ذهني كامل، والتأمل المستمر وفق هذه المعطيات يجعل النفس غير مضطربة وغير فاقدة للتركيز.
والتأمل جزء من التفكر والتدبر، وهو المعنى الذي أشار إليه القرآن الكريم في مواضعَ عدة من سوره الشريفة كما في الآية الكريمة " كذلك يُبَيّن اللهُ لكم الآيات لعلكم تتفكرون / البقرة219 "، أو في قوله : " إنَّ في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب / الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربّنا ناخلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار / آل عمران 190، 191 ".
بهذه الأهمية التي يوليها القرآن الكريم للتدبر يمكن الإستدلال على القيمة التأملية في كل ما يرتبط بقضية الحسين الشهيد عليه السلام، والذي فدا به اللهُ تعالى بذبحه اسماعيلَ عليه السلام.
ولقد زخرت النصوص الأدبية التي تعاملت مع فاجعة الطف بمضامين عالية المخيال بحيث يمكن لها لو تمت ترجمتها إلى عدة لغات أن تحدث ثورة تأملية كبيرة ؛ لثراء وعمق المعاني التي جسدت ماحدث ظهيرة العاشر من محرم، وهو مايجب أن تلتفت له المؤسسات المعنية بإيصال الصوت الحسيني إلى العالم.
لننظر لهذه الصورة التأملية للشاعر المعاصر مهدي النهيري الذي يقدم رؤية حسينية باهرة :
حصر اكتشافَ الماءِ عندَ الموتِ
عندَ الساحلِ المطعونِ يهدرُ أنهرا
فإذا اختبرت خلالهُ حجراً سيعشبُ
كلُّ من مسَّ الشهادةِ أثمرا
وإذا جرحتَ الوقتَ نزَّ دمُ الحسينِ
على الدفاترِ والقصائدِ ممطرا
هذه هي فلسفة الشعر التي لايمكن إلا أن نقف أمامها بانبهار، حيث يقدم الشاعر رمزَهُ الحسيني بصورة مغايرة للسائد، وفيها من الإنزياحات البلاغية والتصويرية، أنظر له كيف يجعل الحسين يكتشف الماء بصورة حصرية وهو ( كل شيء حي ) من خلال الموت، الموت الذي كان ولادة الحياة الحرة الكريمة، والتي إن مسّت بثيمة الشهادة حجراً أعشب ضميراً حراً.
هكذا يمطر الوقت المجروح من الدماء الطاهرة التي تروي - للآن - الدفاتر والقصائد. ولاشك ان التأمل ركن من أركان الفطرة الإنسانية.
نفس الموضوع (التأمل) ينطبق على طقوس عاشوراء الأخرى، فمع الإردة القوية والمتجردةمن كل مايثير الشبهات في العقل، سنصل إلى حالة من استقرار الرؤية في المواقف من خلال التأمل في هذه الشعائر والطقوس التي صارت مع الحياة المعاصرة فعاليات مسرحية بكل ماللمسرح من أنواع، حيث صارت الجموع المحتشدة على الشوارع تشاهد عروضاً حية كان الوقت عاد بها قروناً إلى الوراء، فيكون التفاعل والتأثر بصور عجزت وتعجز عن وصفها كل الدراسات التحليلية وكتب الأرقام القياسية.
فالبياض المحض الذي ترتديه الجموع المؤدية للطقوس والشعائر تأخذك للصفاء الإنساني الذي أراده أبو عبد الله الحسين عليه السلام من خلال ثورته الكبيرة، ذلك البياض يجعل كل ذرة كونية منشدّة لكربلاء، تلك البقعة التي تتسع لاستيعاب ملايين البشر، ولابد لهذا الإتساع من تدبر وتأمل أيضاً.
ليس الحديث عن التفكر والتأمل في قضية الإمام الحسين عليه السلام، ومارافقها من استمرار رغم كل ممارسات التضييق ومناهج المنع لاستئصالها، ليس حديثاً بعيداً عن الواقع، بل أن الواقع يدعو للتأمل في هذه الإستمرارية الزمنية؛ لأننا غير بعيدين عن محيطنا ونشاهد امتدادات كربلاء الأزلية.
اضف تعليق