فالقصائد الحسينية الهادفة لابد لها أن تبحث عن مقاصد ثورة الحسين في ظل واقع نعيشه في يومنا هذا او سوف نعيشه في قابل الأيام والزمان، أي أن تبقى القصائد الحسينية تذكرنا بالأهداف المتوخاة من ثورة الحسين وحيثياتها، كي تكون مرجعاً ومثابات قائمة دائمة سارية وصالحة لكل زمان ومكان...
لماذا تغيب في بعض القصائد التوعية الفكرية المتناسبة مع خطاب النهضة الحسينية؟
وكيف يمكن ان تساهم القصيدة الحسينية في إحداث التغيير الاجتماعي؟
جذر مفردة "قصيدة" هو القصد وأبرز أبيات القصيدة يسمى "البيت القصيد"، ومن معاني مفردة "القصيد" في اللغة العربية هو "العظم الثري بالنخاع". وهكذا يكون البيت القصيد هو البيت الشعري الأثرى بالمضمون والاقرب للقصد في القصيدة. هذا القصد لابد أن يكون ساميا في القصائد الحسينية كي يحاكي مصيبة مأساوية لشخصية تاريخية سامية خالدة بخلود التاريخ والزمن!
رغم أن القصة المفجعة التي جرت لسيد الشهداء أبا عبدالله الحسين (عليه السلام) خانقة ومريبة، والألم فيها عميق وخالد في النفس، غير ان القصائد الحسينية يجب ألا تنصب فقط على الجانب العاطفي في النحيب واللطم، دون التركيز على المقاصد والأهداف التي تمخضت عن هذه المصيبة الأليمة التي جرت أحداثها في واقعة الطف بمدينة كربلاء المقدسة.
هذه المقاصد هي الأسمى والاعمق والادق، حيث تنبعث عنها معاني الصمود والتصدي للظلم ودروس التضحية ضد الباطل. وهكذا فلابد للقصيدة الحسينية أن تتصف بالمقصد، ومن مقاصد القصائد الحسينية أذكر ما يلي:
اولا/ الاقتداء والفخر بشخصية الإمام الحسين:
لابد للقصائد الحسينية أن تفخر بشخصية الحسين وتعدد مناقبها لأنها فخر للأمة الاسلامية وللإنسانية جمعاء، حيث صنعت أقوى وأبلغ قصص التضحية والشجاعة والايثار. لقد جاد الحسين وأهله وصحبه بالنفس من أجل قضية الإيمان والمبادئ والقيم "الجود بالنفس أقصى غاية الجود". هذه القيم رسمها جده الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) قبله حينما قال "والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر، فما تركته حتى يظهره الله أو اهلك دونه".
وأكد روح التضحية هذه والده أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) حينما نام في فراش الرسول (صلى الله عليه وآله) ليلة محاولة الإغتيال، وحينما نازل أقوى وأشجع رجالات قريش دون غيره في معركة الخندق، فنصر جيش المسلمين بقتله قائد العدو "عمرو بن عبد ود العامري".
وهكذا خرج الامام الحسين (عليه السلام) ضد الظلم مضحيا ليصنع المجد والصلاح حيث قال "أني لم أخرج اشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالماً، وانما خرجت لطلب الصلاح في أمة جدي". لقد أعطى (عليه السلام) النموذج الأسمى للثورة ضد الظلم والطغيان، فارتضى الشهادة حيث قال "والله لا اعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقر إقرار العبيد". فأيقظ بشهادته ضمير الأمة الإسلامية ضد الباطل وأحيا نبض العزة والكرامة فيها، فانحنى التاريخ له فخرا واعتزازا.
ثانيا/ استخلاص الدروس والعبر:
أعطى الإمام الحسين (عليه السلام) دروساً بالغة الأهمية، من خلال ثورته ضد الطغيان، للتاريخ وللقضايا الإنسانية، فهي ثورة حق ضد باطل تمتد أهدافها إلى جسد الأمة الإسلامية بأكمله لتشمل الجوانب الحساسة في حياة المجتمعات من سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية ونفسية وغيرها. لقد انتصر الإمام الحسين (عليه السلام) معنويا ليس فقط على جبابرة عصره فحسب، إنما ناصر كل مظلوم بعده في كل زمان ومكان.
لا تزال ثورة الحسين تصرخ بوجه كل ظالم، وتهز عروش المتجبرين والمتسلطين الغاشمين أينما وجدوا على وجه المعمورة. صار الحسين نموذجا حيا يقتدى به في الصبر والتحمل والإصرار بمكافحة الباطل والظلم، حتى غدا رمزا للاستقلال والعدل والانصاف والصلاح والحرية.
لقد بين المفكر اللبناني المسيحي والباحث في فقه اللغة العربية الدكتور "ميشال كعدي": أن الحالة الحسينية ليست مقتصرة على المذهب الشيعي فحسب، وانما هي حالة عامة شاملة مرتبطة بالظلم، وهذا يجعلها قريبة جدا للإنسان أينما كان واينما وجد. كما أشار الدكتور الكعدي بأن الإمام الحسين (عليه السلام) يعد شخصية عالمية بامتياز، وهذا ما تؤكده المكتبات الأوربية وادبياتها.
طبقا لهذه الثوابت فالقصائد الحسينية الهادفة لابد لها أن تبحث عن مقاصد ثورة الحسين في ظل واقع نعيشه في يومنا هذا او سوف نعيشه في قابل الأيام والزمان، أي أن تبقى القصائد الحسينية تذكرنا بالأهداف المتوخاة من ثورة الحسين وحيثياتها، كي تكون مرجعاً ومثابات قائمة دائمة سارية وصالحة لكل زمان ومكان.
ثالثا/ الفن الهادف في القصائد الحسينية:
الشعر هو مرآة المجتمع واللسان الناطق بارهاصاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والإنسانية وغيرها. قال الفيلسوف الفرنسي المعروف "جان بول سارتر": (أن الأدب ثورة بلا بندقية!)، والشعر صنف من صنوف الأدب له اغراض ومقاصد تلم بحاجات النفس البشرية وارهاصاتها. إن كان الأدب ثورة حسب رؤية سارتر، فلابد للقصائد الحسينية أن تكون ثورة داخل الثورة! لأنها تعالج قضية داخل قضية ومقصد في قلب مقصد.
أضافت القصائد الحسينية على مر الزمن للشعر العربي رؤى جديدة في الشكل والمضمون من خلال الوجدان اليقيني، حيث بدأت الفنون الأدبية في القصائد الحسينية منذ بداية ثورة التوابين الذين استخدموا فن "المكتمات" في تعابير رمزية غير صريحة هادفة اججت عواطف الناس ومشاعرهم ضد الحكم الأموي آنذاك.
كانت قصائد التواب عبد الله ابن عوف ابن الأحمر وقصائد أعشى همدان وغيرهما من شعراء التوبة وغيرهم، نماذجا ناجحة في "المكتمات" التي حققت المقصود وأدت دورها على أحسن وجه. استخدم الشعر بالاسلوب المبطن أو الرمزي على مر العصور حتى يومنا هذا، خصوصا إبان النظم الاستبدادية في كثير من الدول العربية والإسلامية والعراق من بينها.
لابد للقصائد الحسينية أن تتصف أيضا بأسلوب السهل الممتنع لأنها تخاطب المجتمع بشكلٍ عام، إذ لا حاجة لمعجم لغة يفسر المفردات أو حاشية تشرح المعاني. يستحسن أن تكون سهلة الفهم واضحة المعنى يدركها السامع والقارئ على اختلاف مستواه الأدبي والثقافي، فتصبح سهلة التغلغل لإسماع الناس، مفهومة ومؤثرة. لكي ترتقي القصيدة الحسينية بوصفها للموصوف فلابد أن تكون، حسنة السبك، عميقة المعنى، رفيعة الوصف، قوية التأثير وغنية بفنون البلاغة في الجناس والتشبيه والاستعارة وغيرها.
رابعا/ نقاء الخطاب وصدق التعبير:
لابد للقصائد الحسينية أن تتصف بنقاء الخطاب وصدق الفحوى ونزاهة التعبير، وأن تلتزم بالشعار الذي ملخصه قول الإمام الحسين (عليه السلام): (اني لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برما)، اي رفض الذل والهوان بكل صنوفه وأشكاله. هذه القصائد يجب أن تكون غنية المضمون لا جوفاء خاوية غير هادفة ولا تلبي اغراض الرسالة الحسينية الخالدة. القصائد الحسينية يجب ألا تصبح مصدر تشويه للصورة الحقيقية أو مبعث تهجم وتنكيل وفتن وغوغاء. القصائد الركيكة بمضمونها وفحواها والمريبة بنقلها للحقائق الصادقة، تكون مدار شك وارتياب وسخرية للمتصيدين بالماء العكر، بل تخالف رضا الله والهدف والحقيقة.
أخيرا وليس آخرا، نختتم هذا المقال بالسلام على شهيد كربلاء الخالد الإمام الحسين عليه السلام:
( السلام عليك يا ابا عبد الله الحسين، وعلى الارواح التي حلت بفنائك واناخت برحلك، عليكم مني سلام الله أبدا ما بقيت وبقي الليل والنهار، ولا جعله الله آخر العهد مني لزيارتكم أهل البيت).
اضف تعليق