لم تكن قضية كربلاء تجلّياً لقيمة واحدة، وإنما لمختلف أنواع القيم التي نحتاجها ويحتاج إليها المجتمع ويحتاج إليها العالم أيضاً، فالمجتمع لا يمكنه العيش من دون قيم، كما أن الفرد أيضاً لا يمكنه العيش من دون قيم، ومن هذه القيم الوفاء؛ متمثلةً في موقف...
بسم الله الرحمن الرحيم
إن القيم الإنسانية النبيلة يمكن أن تُطرح في المجتمع على أحد نحوين:
النحو الأول: أن تُطرح في صورة أفكار مجردة.
النحو الثاني: أن تُطرح في صورة واقعيات متجسدة.
وإذا أردنا لهذه القيم النبيلة أن تكون فاعلةً ومؤثرةً في واقع الحياة، لابدّ أن ننقلها من مرحلة التجريد إلى مرحلة التجسيد، لأن الأفكار المجرّدة قليلة الفاعلية والتأثير، بينما النماذج المجسدّة ذات فاعلية وتأثير كبيرين، فالفارق كبير في التأثير بين من يقرأ في كتاب حول نافلة الليل وفوائدها ــ مثلاً ــ، وبين من يعيش مع مجموعة من أولياء الله أو في بيت يضم مجموعة من أولياء الله يسمع منهم صوت التلاوة سحراً، ويقومون في السحر يناجون الله سبحانه وتعالى، وهو يسمع منهم نداء (العفو.. العفو).
ينقل أحد الأشخاص أن أحد الأولياء جاءهم ضيفاً في بيتهم، يقول: وفي منتصف الليل استيقظت من النوم على صوت بكائه في نافلة الليل، ورغم مضي حوالي ثلاثة وعشرين عاماً مازال صوت بكاء ذلك الرجل يدوّي في أذني.
وكان من البركات المترتبة على عبادة الأنبياء والأئمة (صلوات الله عليهم) هو التجسيد الواقعي حتى يكونوا قدوة عملية ويتأسى بهم الناس، علماً أن الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) كانوا بشراً مثلنا، وهو ما صرحت به الآية الكريمة: (قُلْ إِنّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ)(1)، بينما الملائكة الذين نقرأ بأن منهم قيامٌ لا يركعون ــ مثلاًــ أو رُكَّع لا ينتصبون، فهذا لن يشكل قدوة لنا بذاك المقدار الذي يحفزنا التجسيد الواقعي، لأن الملائكة هم من نوع وصنف آخر، ثم إنهم لا يتعبون، وطعامهم التسبيح، كذلك الحال إذا قيل لنا أن الجبال تسبّح الله سبحانه وتعالى، أو أن الكائنات الأخرى في حالة تسبيح دائم لله سبحانه وتعالى، فإن كل هذا لن يؤثر فينا كثيراً كتأثير الأسوة الحسنة في الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) الذين كانوا من جنس البشر، لأن طبيعة الجبل تختلف عن طبيعتنا، ولكن عندما يُقال لكم إن رجلاً كالعلامة الأميني (رحمة الله عليه) الذي هو بشر مثلنا ومن طبيعته أن يتألّم ويتعب ويمّل؛ هذا الرجل صلّى في شهر رمضان المبارك في كل ليلة ألف ركعة، وبانتهاء الشهر يكون قد صلّى ثلاثين ألف ركعة؛ هذا النموذج يمكن أن يكون قدوةً، لأنه مؤثرٌ ومحفزٌ لنا.
أفراد يجسدون القيم الإنسانية
لقد جسّد أفرادٌ القيمَ الإنسانيةَ الساميةَ في قضيةِ كربلاء، وفي هذا التجسيد نذكر ثلاثَ ملاحظات:
الملاحظة الأولى: تعدد النماذج
إنَّ هذا التجسيد لم يقتصر على فئة معينة، ولا على صنفٍ معين، إنما تمثّلت القيم في جميع الفئات والأصناف والطبقات؛ ففي كربلاء كان هنالك الطفل الرضيع، الذي ربما كان عمره بضعة أشهر، وكانت هنالك الطفلة الصغيرة، التي ربما كان عمرها ثلاثة أعوام، وهي رقية (صلوات الله عليها)، وكان هنالك الشاب المراهق الذي لم يبلغ الحُلُم، وهو القاسم بن الإمام الحسن المجتبى (صلوات الله عليهم)، وكان هنالك الشباب، ونموذجهم هو علي الأكبر (عليه السلام)، وأيضاً كان الكهول، ونموذجهم هو أبو الفضل العباس (صلوات الله عليه)، بناءً على التفسير اللغوي للكهل، حيث جاء في قوله تعالى: (وَيُكَلّمُ النّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) (2)، وكان أيضاً الشيخ الكبير مثل حبيب بن مظاهر. وإلى جانب الرجل، كانت المرأة أيضاً في كربلاء مثل أم وهب، وكان أيضاً الأبيض والأسود مثل جَون مولى أبي ذر، وكان في كربلاء من جميع الطبقات، فكان العربي وغير العربي مثل الغلام التركي، ومن مختلف المذاهب، حيث كان الشيعي والسني والمسيحي، فقد كان زهير بن القين عثمانياً فاستبصر، وكان هنالك المسيحي وهب الذي أسلم، وبالمحصلة كانت في أرض الواقعة تشكيلة متنوعة وعجيبة من الأبرار، لعل التاريخ لن يشهد لهذا التنوع مثيلاً.
لأحد العلماء حديث ظريف في هذا المجال يقول فيه: لو لم تكن عندنا هذه النماذج، كان علينا أن نبحث عن مثل هذه النماذج ونربي من يكون كذلك؛ فإذا لم يكن عندنا حبيب بن مظاهر، كان يلزم أن نربي شخصية مثل حبيب بن مظاهر، لأن كل أمة بحاجة إلى نماذج مُلهمة. لذا عمد ذلك الروائي العالمي المعروف اختراع نموذج وهمي في كتابه، لأن الأمة بحاجة إلى نموذج؛ إما أن يكون حقيقياً وإما وهمياً لذلك الرجل الذي ينكر ذاته ويتجاوزها، ولعله طُبع من كتابه الملايين في العالم وبلغات مختلفة، ونحن والحمد لله لدينا تاريخ غني بالنماذج الحيّة الطيبة، ولن نكون بحاجة إلى اختراع النماذج فهي موجودة، مثل الطفل الرضيع (عليه السلام) وإن لم يكن في سن التكليف، وهناك موكب عزاء للأطفال الرُضَّع، حيث يأتي كل شخص عنده طفل رضيع أو شبه رضيع في أيام عاشوراء على هيئة العزاء، فليكن لنا موكبٌ خاص بالطفل الرضيع، حيث أمامنا نموذج من واقعة الطف.. كما إن الشاب أمامه نموذج أيضاً، وكذلك الحال في الأم والأخت والبنت؛ هذه التشكيلة المتنوعة من النماذج الصالحة لن تتكرر في التاريخ.
الملاحظة الثانية: تجليات القيم
لم تكن قضية كربلاء تجلّياً لقيمة واحدة، وإنما لمختلف أنواع القيم التي نحتاجها ويحتاج إليها المجتمع ويحتاج إليها العالم أيضاً، فالمجتمع لا يمكنه العيش من دون قيم، كما أن الفرد أيضاً لا يمكنه العيش من دون قيم، ومن هذه القيم نذكر:
1. قيمة الوفاء؛ متمثلةً في موقف أبي الفضل العباس (صلوات الله عليه) حين رمى الماء على الماء عند ما تذكر عطش الإمام الحسين (عليه السلام).
2. قيمة التوبة؛ التي نحتاجها جميعاً في كل الأحوال، متمثلةً في موقف الحرّ، حيث قال: (إني أخيّر نفسي بين الجنة والنار، ووالله لا أختار على الجنة شيئاً) (3).
3. قيمة العبادة؛ وهي قيمة مهمة يحتاجها الفرد ويحتاج إليها المجتمع، فقد بات أصحاب الإمام الحسين (صلوات الله عليه) في تلك الليلة ولهم دويٌّ كدويِّ النحل ما بين قائم وقاعد وراكع وساجد.
4. قيمة الدعاء؛ وهي إحدى القيم الإنسانية السامية، فدعاء عرفات لم يكن الدعاء الوحيد الذي قرأه الإمام الحسين (صلوات الله عليه) في يوم عرفة، وهو الدعاء المليء بالمضامين الشامخة، ويقول عنه بعض العلماء إنه إذا قُرأت كلماته بتأمّل وإمعان يجد فيه القارئ إشارة إلى مصرعه (صلوات الله عليه)، حيث يشير الإمام (عليه السلام) في دعائه إلى واقعة كربلاء؛ وإنما دعا أيضاً وهو في اللحظات الأخيرة من حياته، فكان (صلوات الله عليه) يقرأ: (اللهم متعالي المكان...) (4) إلى آخر الكلمات من الأدعية المؤثرة، ويمكن مراجعة هذا الدعاء في كتب المقاتل والأدعية.
5. قيمة الرضا؛ قال الإمام الحسين (صلوات الله عليه): (إن كان هذا يرضيك فخذ حتى ترضى).
6. قيمة الحرية، وهي من القيم الحضارية المهمة في العالم، حيث تدور حولها الحضارات، وقالها مسلم بن عقيل وهو يواجه عناصر عبيد الله بن زياد في الكوفة:
(آليـــت ألا أقتل إلا حرّاً.....وإن رأيت الموت شيئاً نُكرا)(5).
وقال الإمام الحسين (صلوات الله عليه) في حق الحر بن يزيد الرياحي لدى انضمامه إليه: (أنت حرٌّ كما سمّتك أمك)(6).
7. قيمة المساواة؛ فقد وضع الإمام الحسين (عليه السلام) خدّه على خد ولده علي الأكبر (عليه السلام)، كما وضع خدّه على خدّ ذلك الغلام الأسود أو التركي، ولم يفرق بين ولده وبين غلامه.
8. قيمة الأخلاق؛ وهو ما تحاول المسيحية اليوم أن تلتهم العالم من خلاله، ويمكن ملاحظة موقف الإمام الحسين (صلوات الله عليه) مع عدوه وهو الحر وجيشه قبل الواقعة، حيث سقاهم الماء(7).
إذن فقد تمثلت كل هذه القيم المتنوعة وغيرها في قضية كربلاء.
الملاحظة الثالثة: عِبرةً وعَبرة
إن التجلّي الحاصل للقيم في قضية كربلاء اختلط بالعَبرة، فكانت عِبرةً وعَبرة، كما يقول السيد العم(8): (عبرة وعبرَة)، لأن العاطفة تترك أثراً كبيراً في نفس الإنسان، فقضية الحر ليست قضية توبة وحسب، وإنما تحمل قيمة التوبة، وهي في نفس الوقت ليست فقط قيمة، وإنما عِبرة وعَبرة، وهو ما يفتقده الآخرون، لربما يُقال لشخص بأنَّ هناك يتيماً وفقيراً، وهذا قد يترك تأثيراً بمقدار معين، لكن إذا رأى أيتاماً في مدينة منكوبة بالزلزال، فإن التأثير سيكون أكثر وأكبر؛ فقد تجلت هذه القيم في كربلاء ممتزجة بالعاطفة وممتزجة بالعبرة، وهذا يُضيف إلى أهميتها بعداً جديداً، فإذن يمكننا القول أننا بحاجة إلى هذه القيم لشبابنا، إذ يجب علينا أن نربط شبابنا وأبناءنا بهذه القيم متمثلّة في هذه النماذج، فالشاب الذي يرتبط بعلي الأكبر (عليه السلام) لن ينحرف، لأن طبيعته ستكون مختلفة؛ كما يجب أن نُدخِل الحُبّ العميق في قلوب شبابنا، اقتداءً بأحد أصحاب الإمام (صلوات الله عليه) وهو عابس بن شبيب الشاكري الذي قال: (حب الحسين أجنّني).
وظيفتنا تجاه الإمام الحسين (عليه السلام)
بعد كل ذلك، نسأل: ما هي وظيفتنا تجاه الإمام الحسين (صلوات الله عليه)؛ فنحن كلَّ ما عملناه قليل في حقه، لأن له حق الحياة الأبدية علينا.
حصل في البحرين أن أحد المؤمنين رأى رجلاً يتجه هو وعائلته إلى كربلاء، فقال له: أنت تذهب إلى كربلاء وموسم الشتاء على الأبواب، وبيتك متصدّع وربما ينهار بفعل الأمطار؛ الأولى لك أن تصرف أموالك لترميم بيتك، فقال له ذلك المؤمن: لقد بذل الإمام الحسين (صلوات الله عليه) دمه لأجلنا، ونحن لا نبذل مالنا لأجله، إنه ظل مطروحاً في العراء ثلاثة أيام لأجلنا، فهل أفكر بسقف بيتي ولا أذهب لزيارته؟، فقال ذلك المعترض: بأمثال هذا ثبتت شعائر أبي عبد الله الحسين (عليه السلام).
إذن يتحمل المؤمنون المخاطر لزيارة أبي عبد الله الحسين (صلوات الله عليه) فبعضهم قُتلوا في هذا الطريق، والبعض الآخر أوشكوا على الموت عطشاً، ومع أنَّ كل ما نفعله يُعد قليلاً بحق الإمام (صلوات الله عليه) لكن هنالك أمرَينِ ضمن بقية أمور علينا القيام بهما:
الأمر الأول: المشاركة مهما كانت صغيرة، وبأي نوع من أنواع المشاركة، ويمكن ذلك بإقامة مأتم الإمام الحسين (صلوات الله عليه) في البيوت، وكان الوالد (قدس سره) يقول: حتى وإن لم يحضر أحدٌ في بيتكم، فيكفي أن تحضروا أنتم، والعائلة تسمع من وراء الجدار، فالطفل الذي يشارك في المجلس الحسيني ويخدم أو يسمع المصيبة ويرى بكاء الكبير، سيثور في باطنه وقلبه طوفان عظيم، ويحصل عنده الشيء نفسه إذا رأى الكبير في البيت وهو يقرأ دعاء كميل ويبكي، ربما يبقى منظر بكاء الكبير في البيت مدة أربعين عاماً في ذهن الطفل، كما أن المشاركة تكون بالزيارة أيضاً؛ فهذه القطرات تجتمع وتكوّن البحار، ولا يقولنّ أحدٌ ما قيمة هذه المشاركة؟!.
إن كتاباً يؤلفه أحد المؤمنين قربة إلى الله تعالى، حول الإمام الحسين (عليه السلام) أو حول السيدة رقية أو حول السيدة زينب (صلوات الله عليهم)، أو حول شهداء كربلاء، فرداً فرداً، لكلٍ كتاب، مثلاً كتاب عن حبيب ابن مظاهر وهكذا، يمكن أن يجعل الله تعالى فيه التأثير الكبير.
فتح خطوط فكرية وعملية جديدة
الأمر الثاني: ولعله أهم من الأول في بعض النواحي، هو فتح الخطوط، وهو موضوع بحاجة إلى حديث مستقل، فهنالك بعض الأفراد عاملون، سواءً في حضور المآتم أو تأليف الكتب، وهذا أمر مهم، ولكن هنالك أفراد لهم قيمة استثنائية في التاريخ، وهؤلاء هم الذين يفتحون الخطوط الفكرية والعملية، وقد كان الوالد يقول: إن للشيخ الطوسي قيمة كبيرة، لأنه فتح خطاً، فما عندنا من فقه يعود بالفضل إلى الشيخ الطوسي، ولعله قبل الشيخ الطوسي لا نجد فقهاً بهذا الأسلوب مثل كتابه (النهاية)، فهذا يُعد فاتحاً للخط، والشيخ الطوسي يُعد حقاً شخصية عجيبة، فقد فتح خطاً في الفقه وفي التاريخ والرجال والتفسير والأصول. وللمؤسسين دائماً قيمة كبرى في كل أمة، فثمة من يجد الطريق مفتوحاً أمامه فيسير فيه، وهو عمل جيد ومهم، ولكن هنالك أفراداً هم الذين يشقون الطرق ويفتحون الخطوط أمام الآخرين.
إذن علينا أن نحاول فتح الخطوط على اختلاف أنواعها، إذ هنالك أنواع للخطوط ــ مثلاً ــ فكرة موكب الأطفال الرضع الذي أشرنا إليه آنفاً، هذا يُعد فتحاً لخط، فالذي يفكّر بهذه الطريقة ويسنّ هذه السُنة، يكون قد فتح خطاً جديداً، وفي الرواية الشريفة يقول (صلى الله عليه وآله): (من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة)(9).
فبالإضافة إلى المشاركة في المجالس الحسينية، يمكن توجيه الشباب إلى مجاميع عمل ومجموعة خطوط، فالبعض يتكفل بأمر طباعة الكتب الدينية والحسينية، والبعض الآخر يتكفل بهداية الشباب، وآخرون يتم تشجيعهم على إقامة المجالس الحسينية في البيوت، فإذا كانت في مدينة ما مائة ألف دار ليكن الهدف في أن يكون في كل بيت مأتمٌ للحسين (عليه السلام)، ثم تمتد وتستمر المجالس لتصل في استمراريتها إلى مائة عام وأكثر؛ فهؤلاء هم شباب ناشئون ولكن هؤلاء هم شباب المستقبل سيرفعون هذه الراية، حيث يمكن على أثر تشجيعكم أن يشكلوا عشرة آلاف مجلس، ولعل هذه المجالس ستمتد إلى مائة عام، يقال: إن هناك مجالس حسينية في طهران عمرها الآن أكثر من مائة عام.
هذه الأعمال بمختلف أنواعها من قضية المشاركة أولاً، وقضية فتح الخطوط ثانياً، لها قيمةٌ كبيرةٌ عند الله.
مع المحقق الأردبيلي
ينقل المحقق الأردبيلي ــ ذلك العالم الكبير ــ في كتابه، بأنه كان هنالك قائدٌ أراد أن يستعرض جيشَه في أحد الأيام، فسلّم راية لكل قائد مجموعة من الجيش، وقال: على كل قائد أن يأتي ويمر أمامي مع ألف رجل، وفي اليوم المعين جاءت الأفواج ومعها القادة، فمر الفوج الأول ومعهم القائد والراية، ثم مرّت الراية الثانية وخلفها ألف جندي، وهكذا حتى مرت الرايات الواحدة بعد الأخرى فبلغت مائة وعشرين راية، ويكون العدد الإجمالي لمن مروا أمامه مائة وعشرين ألف جندي، وفي ذلك الزمان كان عدد كهذا ضخماً ويُعتد به، لكن ما أن مرت آخر راية من أمام هذا القائد، وإذا به ألقى بنفسه على الأرض وسجد، ولعل هذا السجود كان شكراً لله سبحانه وتعالى، ولكن رأوا أنه أخذ يبكي في سجوده وبصوت عالٍ ولفترة طويلة، ثم بعد ذلك قام من سجوده، من دون أن يكون عمله مفهوماً عند أحد، فسأله أحد المقربين من أصدقائه القدامى وقال له: يا فلان ــ ويذكر المقدس الأردبيلي(10) في كتابه اسم ذلك القائد ــ إن المقام ليس محلاً للحزن والبكاء وإنما للفرح والشكر، فقال له: في الحقيقة، عندما مرّت الراية الأخيرة، خطر إلى ذهني فجأة ولاحت في خاطري قضية كربلاء وتألّمت جداً وتمنّيت أني كنت ــ وبجيوشي ــ في كربلاء حتى أقاتل بين يدي أبي عبد الله الحسين (صلوات الله عليه)، فإما أن أنتصر أو أستشهد، وعندما مرّ هذا الخاطر وتذكرت غربة الإمام الحسين (صلوات الله عليه) أخذتني العبرة وبكيت.
وبعد فترة لما توفي هذا الرجل القائد ــ هكذا ينقل المحقق الأردبيلي ــ رآه عدة أشخاص في عالم الرؤيا، فقالوا له: ماذا فعل الله تعالى بك؟ قال: عندما وضعوني في قبري جاءني الملكان أو الملائكة، (هو ذاكر الملائكة) وسألوني...، فتحيّرت لا أعلم بماذا أجيب، وإذا بالجانب الأيمن من القبر ينفتح، ويدخل سيدٌ نوراني، وقال للملائكة أو للملكين: أتركوه فإن الله تعالى وهبه لي!، فتركوني، فألتفتُ إلى ذلك الرجل وقلت له: من أنت، يا من جئت لنجدتي في هذا الموقف الحساس؟ فقال: أنا الحسين بن علي بن أبي طالب (صلوات الله عليه) جئت لنجدتك في قبال تلك القطرات التي ذرفتها لي، عند ما تذكرت مصيبتي في حالة السجود في ذاك الموقع.
نحن أيضاً علينا أن نفكر بأمرنا، ربما لن يكون لنا عمل واحد نضع أيدينا عليه ونقول: فعلنا هذا العمل مائة بالمائة لله تعالى، وإنه يخلو من الشرك بالله ولا واحد بالمليون، يقول الله تعالى في حديث قدسيٍّ: (أنا خير شريك من عمل لي ولغيري وكلته لغيري)(11)، وظاهر إطلاق هذا الحديث، أنه إذا كان ثمة نسبة واحد بالمليون جزء الداعي أي كان جزء المحرك لغير الله ما كان الله ليقبله، ثم إن الله سبحانه وتعالى ليس محتاجاً إلى أعمالنا، فهل عندنا عمل نتمكن أن نقول: بأننا قمنا به مطمئنين؟
وهنالك قضية أخرى ننقلها بين قوسين؛ ذاك الرجل قال لأمير المؤمنين (صلوات الله عليه) في عالم الرؤيا: فعلت الكثير من الأعمال الصالحة، لكن الإمام (عليه السلام) ردّ كل أعماله وقال كلّها مردودة! فقال للإمام (عليه السلام): لا بأس بذلك، ولكني كنت أفرح من كل أعماق قلبي، عندما يرتفع شأنكم في المجتمع، عندها قال الإمام (عليه السلام) لملائكة العذاب: صدق الرجل أتركوه، لأن هذا الحب ليس فيه شائبة، حتى بنسبة الواحد بالمليون.
مع دعبل الخزاعي
وهنا قضية أخرى معروفة ينقلها الشيخ الصدوق في (عيون أخبار الرضا) (صلوات الله عليه) حول دعبل، أنه كان في لحظات الاحتضار، وقد ساء وضعه بسبب مشكلةٍ كانت في حياته، فرأى ابنه في عالم الرؤيا النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) يأتي ومعه ملائكةٌ كثيرون، فقال النبي (صلى الله عليه وآله) لدعبل: أأنت دعبل؟ قال: نعم، قال: أنت الراثي أهل بيتي؟ قال: نعم، قال: إقرأ شيئاً من رثائك، يقول دعبل: بدأت بقراءة بعض الأبيات، منها هذين البيتين :
لاأضحك الله سنّ الدهر إن ضحكت.....وآل أحمد مظلومون قد قهــــروا
مشرَّدون نُفوا عن عقرِ دارِهِـــــــــــمُ.....كأنهم قد جنوا ما ليس يغتفــــــــرُ
فبكى النبي (صلى الله عليه وآله) وشفع لدعبل وخلع عليه ثياباً بيضاء(12).
مع حبيب بن مظاهر
ويُنقل أن أحد العلماء رأى حبيب بن مظاهر الأسدي (رضوان الله عليه) في عالم الرؤيا، فقال له: هنيئاً لك أنت في أيام شبابك كنت في خدمة النبي (صلى الله عليه وآله)، وفي شيخوختك خضبت شيبتك بيد يدي أبي عبد الله الحسين (صلوات الله عليه) فهنيئاً لك، وهل عندك أمنية بعد ذلك ؟ قال نعم! عندي أمنيةٌ واحدة أن أعود إلى الحياة وأشترك في مجالس عزاء أبي عبد الله الحسين (عليه السلام).
إن شخصية حبيب كانت عجيبة حقاً، ولعل من العظمة التي أعطاها الله تعالى لحبيب أن يُزار مرتين: في المرة الأولى عندما يدخل الزائر من خلال مقامه، والمرة الثانية عندما يخرج سيكون طريقه من عند مرقده الشريف، ونفس العظمة أعطاها الله تعالى للحر (رضوان الله عليه) مقابل لحظات من حياته، ولكن ذلك الموقف كان صعباً جداً، وهو التخيير بين الجنة والنار، واليوم يتوجه الملايين لزيارة الحر، في المنطقة التي تسمى بإسم (الحر) بقرب كربلاء المقدسة، ويُذكر بكل احترام في المجالس منذ ألف وأربعمائة عام إلى هذا اليوم، والعطاءُ الإلهي مستمر لهؤلاء في الدنيا، لكن يلزم الرواح إلى الآخرة لنرى هناك عظيم عطاء ربنا لهؤلاء الأبرار.
من هنا علينا المشاركة في الشعائر الحسينية بمختلف أنواعها وبالمقدار الذي يتمكن الإنسان عليه، فإن لها قيمةً كبيرةً عند الله سبحانه وتعالى، ويجب علينا أن نحاول في شهر محرم الحرام أن يُكتب اسمُنا في ديوان سيد الشهداء (عليه السلام) ونحاول أن نكون ضمن أفضل من يُكتب فيه.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لذلك وصلى الله على محمدٍ وآله الطاهرين.
اضف تعليق