بسم الله الرحمن الرحيم
حين نكون على أعتاب شهر محرم الحرام، حيث يوشك عام من عمرنا على الانقضاء ويبدأ عام جديد مقروناً بذكر سيد الشهداء (صلوات الله وسلامه عليه) وأصحابه الأوفياء (عليهم السلام)، ينبغي على كل واحد منّا أن يبذل جهده في الاهتمام بهذا الشهر، وبشعائر سيد الشهداء (صلوات الله وسلامه عليه)، فهذا الاهتمام مُضافاً إلى ما يضمنه لنا من جهات موضوعية مطلوبة في حد ذاتها، فإنه يضمن لنا تحقيق ثلاثة أهداف طريقية، وكلما كان الاهتمام بهذا الشهر وشعائره أكثر، كانت نسبة تحقيق هذه الأهداف الثلاثة أكثر:
الهدف الأول: حفظ الهوية الدينية
نقدم له بمقدمة ونقول:
إن إحدى الأشياء التي كانت مهمة وخطيرة دائماً، ولكنها أضحت في هذا العهد أكثر أهميةً وخطورة، هي قضية الحفاظ على الهوية.
فيما مضى كانت هنالك حالة انغلاق بين الأديان والمبادئ والحضارات، أو كانت هنالك شبه حالة انغلاق تسود مجتمعات العالم، حيث كانت كل مجموعة تعيش في فلكها، ولكن هذه الحالة تغيّرت في العهود الأخيرة على أثر عوامل متعددة.
فعامل الهجرة إلى بلاد الغرب وإلى بلاد الشرق، وعامل الانفتاح الذي حدث فيما بين المبادئ والحضارات، وعامل العولمة الثقافية، الذي تُعد من أخطر العوامل، ولعل بعض المتديّنين منّا لا يفهم خطورة العولمة الثقافية، كما أن بعضنا ربما لا يفهم تمام الفهم خطورة العولمة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.. كل ذلك جعل من الحفاظ على الهوية مهمةً خطيرة.
زوروا الأفراد القادمين من بلاد الغرب، ولاحظوا ماذا ينقلون لكم عن تلك البلدان، فقد ضاعت هوية الكثير من الأفراد وفقدوا أصالتهم، فقد كان الكثير منهم يحملون أسماء إسلامية مثل (محمد) و(أحمد) وكثيراً من أمثال هذه الأسماء المطهّرة، لكنهم غيروا حتى أسماءهم في تلك الأجواء، فالرجل الذي كان يقال له محمد وإذا به يغير اسمه في تلك البلاد ويحمل اسماً من أسماء الكفر المعروفة! كذلك المرأة التي كانت تحمل الاسم المقدس لفاطمة (صلوات الله عليها) وإذا بها تغيّر هذا الاسم وتحمل اسماً من الأسماء الكافرة! إلى هذا الحد وصل الحال بكثير من الأفراد، فهم ليس لديهم مفهوم عن الصلاة ولا عن الصيام أيضاً.
وقد يعيش رجل مؤمن مسلم مع امرأة ثلاثين أو أربعين عاماً، وكلاهما مسلمان طبقا لبطاقة التعريف، ولهما أولاد وأحفاد لكنهما لا يرتبطان بعقد شرعي! لأنهم ذابوا في تلك المجتمعات، وهذا ما نعني به خطر فقدان الهوية، ولكن هل يُهدد هذا الخطر أولئك الذين ذهبوا إلى بلاد الغرب فقط؟ كلا، لأن الغرب جاء إلى بلادنا وهو موجود الآن في كل غرفة من غرف بيوتنا، إلاّ ما شذّ وندر.
إن الفكر والحضارة الغربية والمنحى الغربي في النظر إلى الكون والحياة خطر لايهدد الذين ذهبوا إلى بلدان الغرب فقط، وإنما يهدد حتى الأولاد في بيوتكم، فكيف يمكن أن نواجه هذا الخطر؟ وكيف يمكن أن نحافظ على هويتنا؟
إن القضايا في هذا المجال كثيرة ومفجعة ولا مجال لذكرها الآن.
محاولات سحق الهوية
إننا نعتقد بأن من أولى الخطوات التي يقوم بها الأجانب الكفار لسحق هويتنا، هي محاولة إبعادنا عن الإمام الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) وعن شعائره... هنالك تجربتان جديدتان، ولا تعنينا التجارب التاريخية حالياً.. فإذا نجح الكفار في أخذ الإمام الحسين (عليه السلام) منا، وهي خطوتهم الأولى، فسينجحون في الخطوة الثانية وهي القضاء على هويتنا، وإذا فشلوا في الخطوة الأولى فشلوا في الخطوة الثانية.
التجربة الأولى: التي ربما لم يعايشها أغلبكم هي تجربة البهلوي في إيران (1) الذي حارب الإمام الحسين (صلوات الله عليه) في كل الأبعاد، لكي تكون إيران مثل تركيا، حيث كانت تركيا قبل هذا العهد تمنع حتى إقامة الـمجالس الحسينية، فلا أحد كان يمكنه أن يقيم مجلساً حسينياً، والناس هناك كانوا يذهبون في يوم عاشوراء إلى المقابر ويبكون فيها حتى لا يسألهم الشرطي عما يفعلون؟! إنهم مقبلون على القبور في ظاهر الحال ولو تعرَّضوا للمساءلة، فلديهم أموات يبكون عليهم، هكذا كانت الحالة.. ولكن فشل البهلوي في القضاء على الهوية الدينية في إيران.
التجربة الثانية: وكثير منكم عايش هذه التجربة، وهي تجربة البعث في العراق، إذ كيف حاربوا الإمام الحسين (عليه السلام) والشعائر الحسينية بكل أنواعها ابتداءً من المجالس البيتية وانتهاءً إلى التطبير والمواكب المختلفة، وكأن منهجية الطغاة واحدة، يقول الله تعالى: (أَتَوَاصَوْا بِه) بمعنى هل أوصى بعضهم البعض الآخر (بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ) (2) حيث طبيعة الطغيان واحدة، ولكن البعثيين فشلوا في ذلك أيضاً.
إنكم تلاحظون الآن هذه الروح الدينية الموجودة في العراق عند الشعب العراقي، ويعود ذلك إلى فشل السلطات البعثية في القضاء على الإمام الحسين (عليه السلام) إذ لم يتمكنوا من أن ينتزعوا هذا الحب وهذه المحبة من القلوب، وعندما جاءت القوات الغربية إلى العراق كانوا مذهولين من هذا الحب وهذا العشق للإمام الحسين (صلوات الله عليه). شاهدوا رجلاً عجوزاً كان مشرفاً على الهلاك، وكان يعاني من الجفاف في بدنه، فأسعفوه بالإسعافات الضرورية، ثم تبين لهم أن هذا الرجل الهرم الطاعن في العمر، كان يمشي لمدة ست وثلاثين ساعة في البراري والقفار بلا ماء حتى أشرف على الهلاك، وقد ذُهلوا لمشهد كبار السن والشباب والأطفال والعجائز وهم في طريقهم لزيارة الإمام الحسين (عليه السلام)، وبعد أن سألوا وتحققوا ــ جنود القوات الغربيةــ إلى أين يذهب هؤلاء مشياً على الأقدام؟ فتبين لهم كما قالوا: أن هنالك قديساً يقدسه هؤلاء وقد قُتل قبل ألف وثلاثمائة عام، وهو مدفون في كربلاء، والحب يدفع هؤلاء إلى هذه الأعمال الخارقة للعادة.
إن الفرد الذي يملك مثل هذا الحب لسيد الشهداء (عليه السلام) ويعيش في هذه الأجواء، هل يمكن أن يفقد دينه وهويته؟ لقد رأينا كثيراً من الذين نموا في مثل هذه الأجواء ثم ذهبوا في ذلك الخضم المتلاطم، في الغرب، بقوا محافظين على هويتهم، وأنا رأيت كثيراً من هؤلاء عندما كنا في كربلاء، لقد كانوا أطفالاً لكنهم نشأوا في أجواء الإمام الحسين (عليه السلام) وأجواء الهيئات والمواكب.
الوالد (3) (رحمه الله) كان يقول: كان الشباب يأتون إليّ ويسألونني عن اسم اقترحه للهيئة التي يقيمونها، فما هو الاسم المناسب؟ وقد سمّينا الهيئات باسم المعصومين (عليهم السلام) وأمهات المعصومين وما أشبه، ولكن في آخر المطاف كنّا نتحيّر في اسم جديد لكثرة تلك الهيئات، فأي اسم نضع لهذه الهيئات بسبب كثرتها؟ إن هؤلاء الشباب عاشوا في هذه الأجواء ثم أخذوهم وألقوا بهم في ذلك الخضم المتلاطم في البلاد التي لا يوجد فيها أي حد، لكن معظمهم حفظوا إيمانهم.
إن الإنسان الذي يجري حب الإمام الحسين (عليه السلام) في قلبه وعروقه لا يمكن أن يفقد دينه وإيمانه، والآن كثير من هؤلاء الشباب الذين عاشوا في تلك الأجواء هم حملة لواء الإمام الحسين (عليه السلام) في بلاد الغرب، وفي بلاد الكفار.
فإذن أول ما تحقّقه لنا هذه المجالس والمنابر والمواكب والمجالس البيتية وهذه الكتب، هو الحفاظ على الهوية الدينية التي أضحت في معرض الخطر ليس في بلاد الغرب فقط، بل حتى في عواصمنا الإسلامية، فكلما نهتم أكثر بهذه الأمور ــ الشعائر الحسينية ــ سنحفظ أنفسنا ونحفظ أجيالنا أيضا.
الهدف الثاني: الدعوة إلى الله تعالى
إن الهدف الثاني الذي تحققه لنا هذه الشعائر هو الدعوة إلى الله تعالى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإرشاد الجاهل وتنبيه الغافل، إذن هذه هي مهمتنا وهذه وظيفتنا. كان السيد العم (4) (حفظه الله) ينقل عن أحد العلماء يُقال له (الشيخ محمود أو محمد شريعت) حيث كان هذا العالم على معرفة بأحد العلماء المسيحيين، وقد كان العالم المسيحي يقول لهذا العالم الشيعي: أنتم الشيعة عندكم الحسين (صلوات الله عليه) ولكنكم لا تعرفون قدره، فإذا كان عندنا نحن المسيحيين مثل الحسين ــ هذه عبارته ــ لنصبنا له في كل شبر من العالم منبراً، ولدعونا العالم إلى المسيحية باسم الحسين.
أنني لا أريد أن أدخل في هذا المجال، ولكن لاحظوا ماذا أحدث الفلم الذي أنتجوه وهو بعنوان (آلام المسيح)(5] من تموجات في العالم، مع إنها قضية عادية جداً في ظاهرها، فقد أخذوا المسيح (صلوات الله عليه) ــ حسب ادعائهم ــ وصلبوه، وهذا كل ما حدث، لكن أيّ تأثير تركه هذا الفلم في العالم، لقد كتبوا في التقارير أن بعض الأفراد أصيبوا بنوبة قلبية عند مشاهدتهم لهذا الفلم تأثراً وتفاعلاً، ثم ماتوا على أثر ذلك.
ولكن أين آلام المسيح (عليه السلام) من آلام الحسين (صلوات الله عليه)، لا يوجد قياس بينهما قطعاً، لذلك لو تمكنا أن نوّسع دائرة التأثير بمقدار آلام الحسين (صلوات الله عليه) سنتمكن من أن نهدي الآخرين إلى الله سبحانه وتعالى. نقرأ في الرواية المعروفة أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: وجدت على يمين العرش مكتوباً (إن الحسين مصباح هدىً وسفينة نجاة) (6] ونقرأ في الزيارة: (ليستنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة)، إذن قضية الإمام الحسين لها القدرة على إنقاذ كل العباد.
طريق التوبة
أختصر هذه القضية التي كان ينقلها الوالد (رحمه الله) قائلاً: كان هنالك رجل يعمل سائقاً وكان ينقل قضيته هذه لأحد العلماء، يقول الرجل السائق: لقد كنت في بداية الأمر مُغنيّاً ومطرباً ولم يبق منكر من المنكرات إلاّ وعملته، ولم تكن لديّ علاقة بالدين في أي فرع من فروعه، حتى الصلاة كنت لا أؤديها، وفي إحدى الأيام، خرجت عائلتي كلها ليلة التاسع من شهر محرم وبقيت وحدي في البيت، شعرت بالضجر وقلت لنفسي، سأخرج خارج البيت دفعاً للملل، فخرجت ومررت بمكان كان يقرأ فيه أحد الخطباء، فجلست في المجلس كي اسمع ماذا يقول هذا الخطيب؟ فأخذ يتكلم وعرّج على قضية أبي الفضل العباس (صلوات الله عليه) فأثّرَ بي جداً، وأخذ الخطيب يتكلم حول أبي الفضل العباس (عليه السلام) عندما قطعوا يمينه وقال: (والله إن قطعتموا يميني إني أحامي أبداً عن ديني)((7، يقول السائق: هذه الكلمات أثّرت فيّ بشدة، ففكرت أن هؤلاء الصفوة ضّحوا بأنفسهم وبكل ما يملكون في سبيل الدين، وأنا أسحق الدين بقدمي!. ويواصل السائق: لقد قررت أن أتوب في المكان نفسه، وفعلاً تبتُ إلى الله سبحانه وتعالى توبةً نصوحاً، وعدت إلى البيت وحطمت كل الآلات المحرمة التي كانت في البيت، وتركت عملي القديم لأنه كان في مجال الغناء وعملت كسائق تكسي، وقد أنعم الله تعالى عليَّ، وأحمده سبحانه على هدايتي، أما من الناحية المادية فوضعي جيد..
ويوجد مثل هؤلاء الأفراد في داخل المنظومة وفي خارجها بالمئات بل بالآلاف.
الهدف الثالث: الآخرة
إن أمام كل واحد منّا سفر طويل، فما هي الذخيرة التي أعددناها لهذا السفر؟ فلا أمل في أعمالنا التي نقوم بها، فهي وظيفة يجب أن نؤديها، وربما تكون كثير من أعمالنا مشوبة بالنقص، فالصلاة التي نصليها كثيراً ما يرمى بها رأس صاحبها كما في الروايات (8)، وكثيراً ما لا يُقبل منها ولا ركوع واحد، أو ولا سجود واحد، ولا كلمة واحدة، لكن الأعمال التي تسجّل خدمة لسيد الشهداء (عليه السلام) وخدمة لأهل البيت (عليهم السلام) هي التي تمثل الأمل، حيث ينبغي أن يكون عندنا أمل، مضافاً إلى الأمل برحمة الله سبحانه وتعالى، وهو الأمل بهذه الأعمال في خدمة سيد الشهداء (صلوات الله عليه).
إن هذا يحتاج إلى أن يفتح الإنسان حساباً مع أهل البيت (عليهم السلام) ليخدمهم، لأن هذه الأعمال تمثل الأمل في لحظات الاحتضار والأمل في القبر والأمل في القيامة.
أنقل لكم هذه الرواية مختصرةً، وهي مذكورة في كتاب (وسائل الشيعة) في كتاب الحج منه، ينقل الراوي عن الإمام الصادق (صلوات الله عليه) يقول له: (رحم الله دمعتك) إن هذه الدمعة لها قيمة كبيرة عند الله سبحانه وتعالى، (أما إنك سترى عند موتك حضور آبائي لك)، فهذه أثر دمعته على سيد الشهداء (عليه السلام) (ووصيّتهم ملك الموت بك، ولملك الموت أرّق عليك من الأم الشفيقة على ولدها)(9] فهذا هو أثر الدمعة على سيد الشهداء (عليه السلام) ألا يحتاج هذا الإنسان أن يفتح حساباً مع أهل البيت (عليهم السلام) ومع الإمام الحسين (صلوات الله عليه).
كان الحاج آغا حسين القمي (10) (رحمة الله عليه) معروفاً بولائه وذوبانه في أهل البيت (عليهم السلام) ذكرت فيما مضى بعض القضايا عنه، فقد كان يذهب إلى حرم سيد الشهداء (صلوات الله عليه) ويشعر باللذة من ذلك، ليس كبعضنا حيث نذهب إلى الحرم مرة في الشهر ثم نحاول الخروج بسرعة! بينما كان السيد القمّي يشعر باللذة، فكان يطيل في زيارته مع كثر مسؤولياته وأعماله، وأحياناً كان يخرج من الحضرة ثم يقول لم أرتوِ بعدُ، فيعود مرة ثانية إلى الحضرة، لكن بعض الذين كانوا معه كانوا يقولون: نحن ليس لدينا القدرة على العودة فكانوا يغادرون، أما هو فكان يقول لمن معه: هذه هي الجنة، هكذا كان شعوره، فقد كان يشعر أنه عندما يذهب إلى هذه الأعتاب المقدسة فإنه في الجنة، وهذه هي نتائج الحساب المفتوح مع أهل البيت (عليهم السلام).
يُنقل أنه في اليوم الأخير من حياته كان مُغمى عليه في أحد مستشفيات بغداد، فجأة فتح عينيه، وأخذ يخاطب الحاضرين الذين كانوا معه ويقول لهم: السيد قادم..! السيد قادم..! فظنّ بعض الذين كانوا معه بأنه كان يتكلم عن لا وعي، إذ ما معنى جملة (السيد قادم)؟! وأصرّ عليهم أن يجلسوه، فأجلسوه استجابة لإصراره، فالتفت إلى الباب وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، السلام عليك يا أمير المؤمنين، وفاضت روحه إلى بارئها.
إن هذا الشيء هو نتيجة ذاك العمل، وهنا يظهر أثر هذا الحبّ وهذه العلاقة.
وفي حديث مروي أقرأ لكم نصّه، عن الإمام الصادق (صلوات الله عليه) يقول: إن الذي يلي حساب الناس قبل يوم القيامة هو الحسين بن علي (صلوات الله عليه) (11) ولا عجب في ذلك، فمن الذي يتولّى قبض الأرواح بإذن الله تعالى؟ إنه ملك الموت، ومن الذي يتولى حساب الناس قبل يوم القيامة؟ إنه سيد الشهداء (عليه السلام).
كان الوالد (رحمه الله) ينقل أن جدته وكانت شديدة العلاقة بسيد الشهداء (عليه السلام)، كان مغمىً عليها في لحظات الاحتضار، وقد فتحت عينيها قبل موتها بلحظات والتفتت إلى باب الغرفة وقالت: السلام عليك يا أبا عبد الله، وقُبضت روحها.
إن هذا ينفع عند الاحتضار، وفي القبر، وفي يوم القيامة، وينفع عند الصراط، يقول الإمام الرضا (صلوات الله عليه) ــ كما في الوسائل، كتاب الحج ــ يقول لابن شبيب: (يا ابن شبيب إن سرّك أن تكون معنا في الدرجات العليا من الجنان، فاحزن لحزننا وافرح لفرحنا وعليك بولايتنا) (12)، وهنالك روايات كثيرة يمكن مراجعتها في كتابي (وسائل الشيعة) و(بحار الأنوار).
من هنا ينبغي علينا أن نهتم بهذه القضية بالمقدار الذي نتمكن عليه، فنحن لنا قدرة هائلة، وحقاً نحن مفرّطون في هذا الجانب، فالحضور ضروري، والمشاركة الشخصية ضرورية، ولبس السواد ضروري أيضاً، كذلك وضع المصابيح الحمراء على البيوت إظهاراً للتفجع ضروري، ولكن ليس هذا كل شيء، فنحن قادرون على أن نقوم بأكثر من هذا.
يجب أن لا نظن بأن الذين خلّفوا هذه الآثار كانوا أفرادا مقتدرين، وهذه هي الفكرة والتصور الموجود عندنا، وهو تصور خاطئ، إذ لم يكن أولئك الذين قاموا بتلك الأعمال أناساً مقتدرين غالباً، بل كانوا أفراداً عاديين مثلنا غالباً، ولكن كانت هذه الأعمال محط عنايتهم، فيبارك الله تعالى فيها، فلو قررتم الآن أن تبنوا ألف حسينية، فإن عنايتهم ستكون معكم، وتوّفقون بإذن الله، فمن هم الذين وُفقوا في ذلك؟ وكذلك إذا قررتم أن تطبعوا ألف كتاب حول سيد الشهداء (عليه السلام) ــ مثلاــ فمن هم الذين طبعوا الكتب؟ إن الأمر يحتاج إلى همّة وحسب.
عناية الإمام الحجة (عج)
أنقل لكم هذه القضية وأختم، لكي تعرفوا أن الذين عملوا في خدمة أهل البيت (صلوات الله عليهم) كيف كانوا ومن كانوا وكيف أصبحت العناية بهم؟
السيد العم (حفظه الله) ينقل هذه القضية فيقول: كان هنالك مجموعة من الأفراد في كربلاء المقدسة قرروا أن يبنوا حسينية باسم سيد الشهداء (عليه السلام)، وهم من بلد معين وليس من أهالي كربلاء، أو بعضهم كانوا من بلد آخر، في كل الأحوال.. ذهبوا وتحركوا وتكلموا مع الأفراد، لكن لم يتمكنوا أن يصنعوا شيئاً، سوى شيء محدود لم يكن كافياً، ففكروا أن يبعثوا وفداً منهم إلى بلدهم، في إحدى مدن إيران، ليذهبوا ويكلموا أهالي بلدهم، ويقولوا لهم: هذه حسينيتكم وبُنيت باسمكم، تعالوا وساهموا في بنائها.
فخرج ثلاثة منهم من كربلاء المقدسة ووصلوا إلى ذلك البلد في إيران وطافوا على التجار والأفراد هناك، من دون نتيجة مطلوبة، فرضاً كان مقدار المبلغ الذي يحتاجونه مائة مليون، فلم ينتج عن عملهم وتحركهم سوى عشرة ملايين مثلاً، ــ الأرقام في هذه القضية غير مذكورة ــ فعاد هؤلاء مُحبطين لأنهم لم يتمكنوا أن يجمعوا شيئاً، فعادوا وكانت طهران في طريقهم فقالوا: نذهب ونتحرك على تجار طهران، لكن لم يكن عندهم أمل فانصرفوا عن هذه الفكرة، ثم قالوا: نعود إلى كربلاء ونترك الموضوع.
في إحدى الليالي، كان بين هؤلاء الثلاثة رجلٌ يقال له السيد غلام رضا الكسائي هذا الرجل كان ذاهباً إلى مسجد من مساجد طهران، وكان يسمى آنذاك (مسجد شاه) لأداء صلاة المغرب أو العشاء أو النوافل، يقول: لم يكن أحد في المسجد، كنت وحدي، فبدأت بالصلاة وأكملت، في هذه الأثناء سمعت حركة من خلفي، وإذا بشخص جاء و جلس خلفي وقال لي: يا فلان.. لا تنظر خلفك! ــ وفي ذلك الوقت لم تكُن السيارات المفخخة والعمليات الانتحارية موجودة حتى يتخوفّ الإنسان ــ! يقول: وأنا أيضاً لم أنظر إليه، ــ إما امتثالاً لأمره وإما أن هذه كانت ولاية تكوينية، فلم يكن يتمكن من أن ينظر إليه ــ بعد ذلك قال: أنتم المهتمّون ببناء هذه الحسينية في كربلاء؟ قلت: نعم، قال هذا شيءٌ لهذه الحسينية، وقدمّ (شيكاً) إليّ وخرج، يقول: كان يُعجبني كثيراً أن أرى مَن هو ذلك الرجل! لكنه قال لي لا تنظر خلفك، يقول: خرج ذلك الرجل وذهب، أما أنا فرجعت إلى البيت، وشرحت القضية للاثنين اللذَين كانا معي، فقالا: غير معقول! وبعد أن شاهدوا (الشيك) رأوا أنه يحمل كل المبلغ المتبقي والمطلوب، فمن هو صاحب هذا (الشيك)، لا نعلم، يقول: ذهبنا إلى بعض تجار طهران نسألهم: من هو صاحب هذا الشيك، فقالوا: لا ندري، توقيع مَن؟ لا يعلم أحد، حسناً قلنا: نذهب إلى البنك لأخذ المبلغ، فقلنا لموظف البنك: هل يوجد هكذا مبلغ، قال: نعم، المبلغ موجود، وقبل أيام وُضع في الحساب، لكن من هو صاحب هذا المبلغ؟ قالوا: لا ندري! فتحرينا الأمر حتى وصلنا إلى المدير والمطلع، قلنا له: هذا الشيك لمَن؟ قال: لا أدري! وإنما عندنا تاجر متعامل مع البنك.. جاء قبل أيام ووضع هذا المبلغ في البنك وقال: هذا المبلغ يعود لشخص مّا، فأي شخص أحضر لكم هذا الشيك أعطوه المبلغ، فقلنا: وأين هذا التاجر الواسطة، قالوا: مات قبل أيام!
يقول السيد غلام رضا وهو صهر العلامة الأميني: كنت متأثراً كثيراً، إذ كان قاطعاً بحسب بعض القرائن والشواهد أن هذا الرجل كان الإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه)، يقول: يا ليت كان بإمكاني على الأقل أن أراه وأنكب على يديه ورجليه أقبّلهما، ثم جاؤوا بالمبلغ وبُنيت الحسينية و شيّدت...
ذات مرة نقلت لكم قضية ذلك الحمّال الذي بنى حسينية، ومرةً نقلت لكم ذلك الرجل الذي كان يصنع (السماور) في مدينة مشهد وقد بنى أربعة عشر حسينية، ومرة نقلت لكم قصة ذلك الحارس الليلي الذي بنى في الكويت حسينية، ومرة نقلت لكم قضية تلك البنت التي ورثت من أمها مالاً وبنت في الكويت حسينية، وهكذا...
كل واحد من هؤلاء يمكن أن يكون حجةً علينا يوم القيامة، فلماذا لم نتحرك نحن؟ إن الأعمال التي نقوم بها لسيد الشهداء (عليه السلام) أقل بكثير من قدرتنا، فقدرتنا أكثر بكثير من ذلك، إن الآخرين ضحّوا و قُتلوا و شُرّدوا وعُذّبوا بتلك الأساليب الوحشية في سبيل حبهم وولائهم للإمام الحسين (عليه السلام)، إنكم الآن تسمعون ماذا كان يجري في سجون العراق، من بعض الأفراد الذين أخرجوا وهم أحياء... أنا أعرف بعضهم.
إن كثيراً من المؤمنين شُرّدوا وقتلوا، وتيتمت أولادهم وترمّلت نساؤهم لأجل سيد الشهداء (عليه السلام)، فما قدر ما نعمله نحن في قبال أولئك، نحن ينبغي علينا أن نحاول الاستفادة مما تبقى من عمرنا، الذي لا يُعلم كم مقداره، وأن نحاول أن نتخذ مع سيد الشهداء (عليه السلام) عهداً (لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا)(13)، فهذه الأعمال إن شاء الله كلها تكون وثائق الشفاعة لنا (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ)(14) وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
اضف تعليق