تمثل الإحاطة الكاملة والشاملة بنهضة الإمام الحسين (ع) وثورته على الطغيان ممثلاً بظلامية الأمويين شيئاً يقترب من المحال على العقول المحدودة؛ وذلك لتداخل الأبعاد في تلك النهضة الملحمة بين ماهو غيبي وماهو واقعي. وليس لنا الخوض في أبعاد الغيب طبعاً، لكننا نقف مذهولين أمام الصور الواقعية التي زخرت بها ظهيرة العاشر من محرم من التضحيات التي عبرت الهويات الدينية، والجنس البشري، والأعمار المتفاوتة، فضلاً عن تأكيد مدرسة أهل البيت عليهم السلام على احترام قيمة حقوق الإنسان حتى مع كونه عدواً، وهذا ماتجلى بتعامل الإمام الحسين مع الحر بن يزيد الرياحي في قضية سقي معسكره بالماء الذي حُرِمَ منه لاحقاً، بل أن السقي لم يشمل الأفراد، وانما شمل حتى الخيول، وهذا الموقف كان من الأسباب الرئيسة التي جعلت الحر يتحول بعد صراعات نفسية كبيرة لم تستغرق سوى سويعات إلى معسكر الحق، ثم يرحل شهيداً.
من هذه الصورة المضيئة، تقدم كربلاء الأخلاق بوصفها فاعلاً للتحولات الفكرية والسلوكية، فكيف إذا كانت هذه الأخلاق هي نتاج طبيعي لمن تربى ونشأ في حضن النبوة والإمامة؟
الحزن المُنتج
في كل صورة من صور العطاء الحسيني في كربلاء؛ نجد مسارات متصلة بعضها ببعض، خصوصاً تلك التي تتعلق بالقيمة المستقبلية لديمومة الحزن على مصاب الحسين الشهيد، فاستمرارية الحزن المضيء هذا تمثل انتاجاً وعطاء إنسانياً كبيراً على عكس مايذهب له المخالفون لشعائر وطقوس الحزن العاشورائي من أن هذا الحزن يورث الذل والهزيمة والانكسار؛ ذلك لأنهم لم يتعمقوا في العبارة الشهيرة (كربلاء عَبرة وعِبرة)، فكثير من الثورات التي أعقبت ثورة الإمام الحسين كان أبطالُها من الباكين على مصابه، وحتى في زمننا هذا الذي نعيشه اليوم يمكن أن نتمثل بتجربة أبناء الحشد الشعبي في قتالهم ضد زمر التطرف والتكفير، إذ أنهم وحتى في معاركهم يقيمون الطقوس والشعائر لأنها تزيد من عزيمتهم وإصرارهم على تحقيق النصر. لقد قدم الإمام الحسين (ع) العَبْرة من خلال صبره على ماتعرض له في ملحمة الطف من أهوال، وفي ذات الوقت كانت العِبرة في انتصاره وبقائه خالداً مضيئاً، في الوقت الذي شهد ويشهد انطفاء القيم المنحرفة التي ثار عليها وهزمها.
الأساس الحُسيني والإعمار الزينبي
انتجت لنا كربلاء ثنائية (الحسين- زينب) عليهما السلام، ويمكن لنا ان نقرأ هذه الثنائية التي لم تأت وليدة الصدفة بل بتخطيط مبرمج اشتغل عليه أمير المؤمنين صلوات الله عليه ودور هذا الثنائي العظيم في إحقاق الحق والقبول بالتحديات التي أثمرت خلوداً راسخاً في عقول وقلوب المحبين من شتى المذاهب والأديان والأعراق.
ولن نجد صعوبة في تفسير المواقف التي تسلسلت لتتكامل بصورة عجزت الأقلام عن وصفها والألوان عن رسمها، فهما -عليهما السلام- ذرية الإيمان المطلق الناشئة في حجر النبوة والرسالة، وقد نهلا من عبادة وسلوك أمهما وفصاحة وبلاغة أبيهما صلوات الله عليهم أجمعين ماجعلهما يشيدان بناء معمارياً سلمت الفؤوس الحاقدة عبر الدهور بأنها لن تستطيع النيل من هذا الصرح ومن علوه الذي يتألق ويتسامى.
هذه الثنائية تمثل مدرسة الولاء الحقيقي للنهج المحمدي الذي رسم للأمة ملامح تكاملها وكان من الضروري ان يستمر هذا التكامل الإنساني والحضاري حتى وإن كان ثمنه التضحيات الكبيرة (ماكان لله ينمو)، فقدم الحسين ثقافة التضحية والفداء وقدمت زينب ثقافة الصبر على الشدائد والمحن لتكمل بعدها المسيرة بعد استشهاد أخيها عليه السلام وهي مهمة ليست باليسيرة بالقياسات الإعتيادية، ففي اللحظات الأولى بعد فقد اخوتها بدأت دورها الذي تمثل بغرس حالة الغضب والنقمة على المجرمين القتلة وفضح المشروع الأموي وامتداداته التي خططت للقضاء على المفاهيم المحمدية الأصيلة عبر مسارات ليس لها إلا لبوة علي بن أبي طالب التي هدرت بكل ما اوتيت من بلاغة وفصاحة بكلمات قلبت سحر ابن زياد عليه حينما قالت: (الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه محمد، وطهرنا من الرجس تطهيرا، إنما يفتضح الفاسق، ويكذب الفاجر)، لتجعل من الكوفة طقساً بكائياً نادماً جازعاً لما حدث لسبط النبي ليتعاظم الدور الزينبي ويتألق أكثر في الشام، وبناء على ذلك نستطيع القول أن المنهج الزينبي في إكمال مسيرة الحق سار ببرمجة واعية لضرورات المرحلة عبر مسارات بدأت بالجهاد الذي آمنت به مولاتنا زينب وبضرورته التي ستؤتي ثمارها حتماً، والأكيد أنها اتخذت من أمها الزهراء صلوات الله عليها قدوة ونموذجاً فكما وقفت بضعة الرسول مع زوجها أمير المؤمنين في المحنة التي أعقبت وفاة الرسول ودفاعها عن حقه الذي لم يرض الله بدونه الإسلام ديناً، وقفت زينب وقفتها العظيمة إلى جانب ابن أخيها الإمام السجاد صلوات الله عليه لتشكل معه ثنائية جديدة بنفس ملامح الثنائية الأصلية.
كما كان للجانب التربوي مسار واضح في المنهج الزينبي خصوصاً مع أصعب اللحظات التي واجهتها حين قام الأعداء بحرق الخيام وترويع الأطفال لتأخذ دورها التربوي العظيم في معايشة هذه الظروف القاهرة غير مكترثة بالأساليب الإستفزازية وغير الإنسانية خصوصاً مع الحالة المرضية التي ألمت بالإمام السجاد عليه السلام الذي كادت أن تطاله يد الغدر لولا تدخل العناية الإلهية التي جعلت من العقيلة زينب عليها السلام سبباً لإنقاذ حياته وبالتالي الحفاظ على خط الإمامة واستمرار دوره وهذا نفس الدور الذي قامت به الزهراء عليه السلام في خطبتها الكبيرة لتبيان أهمية هذا الخط الذي رسمه خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وبتوجيه السماء وانقلب عليه المنقلبون. فأي تربية للأجيال أعظم من جلوسها عند جسد أخيها الشهيد وترفع جسده الشريف وتخاطب الله تعالى وبكل رباطة جأش: (إن كان هذا يرضيك فخذ حتى ترضى).
وبمسار آخر تتجلى قيم الكبرياء والشموخ، وفي أصعب المواقف تقف عقيلة الطالبيين سبية أمام الطاغي الفاجر يزيد فتسخر منه ومن طغيانه لتجعل منه أضحوكة: (ولئن جرّت علي الدواهي مخاطبتك، إني لأستصغر قدرك، وأستعظم تقريعك، وأستكثر توبيخك)، بكل هذا الإباء ترسل بنت علي رسالة التحدي والثقة بالنفس والنصر القادم لامحالة فليس هو نصراً يقاس بالمقاييس الدنيوية بل نصر له أبعاده في الدنيا والآخرة على حد سواء، الأمر الذي أكدته في قولها: (فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لاتمحو ذكرنا، ولاتميت وحينا)، والمتأمل في مدلولات كلامها يجدها دروساً بليغة في تذكير الحاكم الطاغي الجائر بأنه مهما بلغت قوته وسطوته فأنها تتلاشى أمام قوة الله تعالى وقوة المنهج الذي يمثل إرادته، ومن جانب آخر تبصر الأمة بحقيقة المشروع الاموي وامتداداته التي تريد لإطفاء الوهج المحمدي ممثلاً بأهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين.
ومع كل هذه الأحداث لم تنس انها امرأة، فبعد أحداث كربلاء أكدت اهمية الدور الذي يمكن أن تلعبه المرأة في كافة المجالات شريطة إيمانها بنفسها وقدراتها، والأهم إيمانها بالقضية التي تتبناها، فهي منذ صغرها كانت تنهل العلم والبلاغة والفصاحة من أبيها سيد البلاغة والفصاحة كما أنها روت خطبة أمها الزهراء عليها السلام وهي في عمر ست سنوات، كما أنها وقبل أحداث عاشوراء وفي خلافة أبيها عليه السلام أخذت على عاتقها مهمة تثقيف النساء في مجالس علمية لتبيان دور المرأة كانت تعلمهن تفسير القرآن والحديث فهي العالمة غير المعلمة بتعبير إمامنا السجاد عليه السلام.
اضف تعليق