لعلّنا لم نخطئ إذا قلنا إن أشد الأخطار فتكاً بالأمة الإسلامية، تلك التي تصيبها من الداخل وتجعلها تعرض عن المنهج الوسط الذي دعا إليه الحق تعالى حيث يقول سبحانه (وان هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله)(1)، لان كل ابتعاد عن النمط الوسط يولد التصدع والشرخ في كيان الأمة، وكلما كبر هذا الشرخ كثرت الفتن، وتشعبت الآراء الخاصة وتفككت العرى والأوصال.
ومن هذه الثغرة بالتحديد استطاعت بعض الأمم وأصحاب الأفكار المسمومة ان ينفذوا إلى قلاع المسلمين ويتحكموا بمصائرهم وقدراتهم، والا لوكان الاعتدال حاكماً فيها والموزونية مسيطرة على مختلف أفعالها لعاشت الوحدة بكل معانيها ولتهيبتها بقية الدول.
إن (انعدام الوسطية) اظهر الغلو في فهم الحقائق إفراطا وتفريطاً، وأولد تيارات وفرقاً سياسية وفكرية متطرفة يلعن بعضها البعض ويكفر كل اتباع طائفة، اتباع الطائفة الأخرى، فصرنا أشداء على إخواننا، رحماء على أعداءنا، أقوياء على من ساعدنا، أذلاء أمام من حاربنا.
ولكي نقف على جذور السرطان الذي شل جسد الأمة الإسلامية، نرى من الضروري الرجوع إلى الاصطلاح والمفهوم لمعرفة الاصول اللغوية التي قام عليها هذا الاصطلاح، والمرتكزات الأولية التي قامت عليها القاعدة من نصوص قرآنية وأحاديث شريفة واجماع وعقل، والمجالات الحيوية التي تتحكم فيها قاعدة الوسط، فقهية كانت أو حياتية، واخيراً نتطرق إلى المستثنيات من قاعدة الوسط.
اللغة والاصطلاح
(وَسَطَ الشيء، (يَسِطُه) وَسطاً، وسِطَةَ: صار في وسطه، يقال وسط القوم، ووسط المكان، فهو واسط. والأوسط: المعتدل من كل شيء(2).
الراغب الأصفهاني يقول في مفرداته ان الوسط: ماله طرفان متساويا القدر، ويقال ذلك في الكمية المتصلة كالجسم الواحد إذا قلت: وسطه صلب، وضربت وسط رأسه بفتح السين، ووسط بالسكون، يقال في الكمية المنفصلة كشيء يفصل بين جسمين نحو وسط القوم كذا. والوسط تارة يقال فيما له طرفان مذمومان يقال: (هذا أوسطهم حسباً)، إذا كان في واسطة قومه وأرفعهم محلاً كالجود الذي هوبين الإسراف والبخل، فيستعمل استعمال القصد المصون عن الإفراط والتفريط فيمدح به نحو السواء والعدل والنصفة، نحو(وكذلك جعلناكم أمة وسطا) وعلى ذلك (قال أوسطهم)(3). أما الفيروز ابادي فيرى الوسط: عدلا فيقول: الوسط، من كل شيء أعدله (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) أي: عدلا خيارا(4). والى ذلك ذهب أبوهلال العسكري، عند ما قال: الوسط يضاف إلى الشيء الواحد فنقول قعدت وسط الدار، ولا يمكن ان نقول قعدت وسط الدارين، والوسط يقتضي اعتدال الأطراف إليه، وفي الدارين هناك تباين، ولهذا قيل الوسط العدل في قوله تعالى (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) والوسط اسم الشيء الذي لا ينفك من الشيء المحيط به جوانبه كوسط الدار ووسط رأسه(5). والوسط للمذكر والمؤنث والواحد والجمع: المعتدل، يقال مثلا (شيء وسط) أي بين الرديء والجيد(6).
غير ان ابن أبي الحديد يرى ان الوسط هوخيار كل شيء(7) أما الطبرسي فلا يرى فرقاً بين العدل والخيار لان معناها في نظره واحد فيقول: الوسط: العدل، وقيل الخيار ومعناهما واحد لان العدل خير والخير عدل. واخذ من المكان الذي يعدل المسافة منه إلى أطرافه، وقيل بل أخذ من التوسط بين المقصر والغالي. قال صاحب العين: الوسط من كل شيء أعدله وأفضله(8). والنتيجة ان الوسط: خيار وعدل وقصد كل شيء.
أما اصطلاحاً فالوسطية: حالة – خطابية أو سلوكية – محمودة تعصم الفرد من الميل إلى جانبي الإفراط والتفريط. ومفهوم الوسطية قديم قدم العدل الذي يمتد إلى عمق التاريخ، فكان لفظ الاعتدال معبراً أساسيا عن مفهوم الوسطية والموزونية التي تنشدها الشعوب المضطهدة والمقهورة أما لفظ الوسطية، فكان نادراً في كتب اللغة والأدب باستثناء الفترة الأخيرة التي اخذ بها يتوسع على حساب المصطلحات الأخرى.
مرتكزات قاعدة الوسط
(1) القرآن الكريم:
حيث جاء بلفظ الوسط ومشتقاته
قال تعالى: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى)(9).
وقال تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا)(10).
وقال تعالى: (فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم)(11).
وقال تعالى: (قال أوسطهم ألم اقل لكم لولا تسبحون)(12).
وقال تعالى: (فوسطن به جمعا)(13). كما جاء بألفاظ أخرى..
قال تعالى: (واقصد في مشيك واغضض من صوتك)(14).
وقال تعالى: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما)(15).
وقال تعالى: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولاتبسطها كل البسط)(16).
وقال تعالى: (كلوا واشربوا ولا تسرفوا انه لا يحب المسرفين)(17).
وقال تعالى: (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا)(18).
وقال تعالى: (وأوفوا الكيل والميزان بالقسط... فاصلحوا بينهما بالعدل واقسطوا)(19).
وقال تعالى: (وان طائفتان من المؤمنين... فاصلحوا بينهما بالعدل واقسطوا)(20).
(2) السنّة المطهرة:
فقد وردت في السنة الروايات ما يدل على هذه القاعدة باللفظ أو المفهوم.
منها: عن أبي بصير قال سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول نحن نمط الحجاز، فقلت وما نمط الحجاز؟ قال أوسط الأنماط، ان الله يقول (وكذلك جعلناكم امة وسطا) ثم قال إلينا يرجع الغالي وبنا يلحق المقصر(21).
ومنها: عن الباقر(عليه السلام) قال: يا معشر الشيعة، شيعة آل محمد، كونوا النمرقة الوسطى يرجع إليكم الغالي ويلحق بكم التالي(22). والمراد بـ(كونوا أهل النمرقة الوسطى) كما كانت الوسادة التي يتوسد عليها الرجل إذا كانت رفيعة جدا أو خفيفة جداً لا تصلح للتوسد بل لابد لها من الارتفاع والانخفاض حتى تصلح لذلك.
ومنها: عن العباسي قال: استأذنت الرضا(عليه السلام) في النفقة على العيال فقال: بين المكروهين، قال: فقلت: جعلت فداك لا والله ما أعرف المكروهين، قال: فقال لي: يرحمك الله أما تعرف ان الله عز وجل كره الإسراف وكره الإقتار فقال: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما)(23).
ومنها: قال أبو جعفر(عليه السلام) لابي عبد الله(عليه السلام): يا بني عليك بالحسنة بين السيئتين تمحوهما، قال: وكيف ذلك يا أبه؟ قال مثل قوله تعالى: (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها) ومثل قوله تعالى: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط). ومثل قوله تعالى: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا) فأسرفوا سيئة، واقتروا سيئة (وكان بين ذلك قواما) حسنة فعليك بالحسنة بين السيئتين(24).
ومنها: ما جاء في وصية أمير المؤمنين عليه السلام لابنه الحسن(عليه السلام) عند وفاته: (واقتصد يا بني في معيشتك، واقتصد في عبادتك، وعليك بالأمر الدائم الذي تطيقه)(25). أي الامر الوسط.
ومنها: الدعاء المروي عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) حيث يقول: وأسألك القصد في الغنى والفقر(26).
ومنها: قول علي(عليه السلام): الاعتدال خير والإفراط شر(27).
ومنها: قول علي(عليه السلام): ما عال امرؤ اقتصد(28).
ومنها: قول الصادق(عليه السلام): ضمنت لمن اقتصد ان لا يفتقر، وقال الله عز وجل (يسألونك ماذا ينفقون قل العفو) والعفو الوسط، وقال الله عز وجل(والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما) والقوام الوسط(29).
ومنها: ما جاء عن الصادق(عليه السلام): ان القصد أمر يحبه الله عز وجل وان السرف يبغضه(30).
ولا يخفى ان القصد هنا: بمعنى الطريق الوسط المستقيم، والاقتصاد: رعاية الوسط الممدوح في جميع الأمور، وترك الإفراط والتفريط في جميع المسائل الدينية والحياتية.
(3) إجماع المتشرعة:
فبعد صريح الآيات، وصحيح الروايات اتفقت كلمة العلماء في الفقه والأخلاق ونحوهما على ان الوسط هوخير الطرق وأقومها، وهو الموصل إلى الغاية المرضية من قبل الحق تعالى، والموافق لقصد الشارع المقدس، وكل ما خرج عن ذلك الحد مذموم ملوم ومحاسب دنيا وآخره، والذي يراجع أبواب الفقه وفروعها المختلفة يقف على موارد كثيرة تدعو للأخذ بهذه القاعدة، ومن تلك الأبواب؛ الأطعمة والاشربة حيث يقول سبحانه (كلوا واشربوا ولا تسرفوا) والإسراف خلاف الوسط كما أن الزهد حالة وسطى بين التمحض في الروحانيات والوغول في الماديات، والشجاعة كذلك وسط بين التهور والجبن وهكذا الأمر يجري في الاقتصاد، الاجتماع والعلاقات الإنسانية.. حيث يقول سبحانه (واقصد في مشيك).
وفي هذا الصدد يقول آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي في كتاب الفقه ـ الاقتصاد ما نصه:
(والتوسط وان كان حسناً في اغلب الامور، كما قال سبحانه: (وكذلك جعلناكم امة وسطا) وفي الحديث: (خير الأمور أوسطها) لكنه في الأمور الخيرية الأحسن السرعة إلى حد لم يكن إسرافا وإهلاكا)(31).
(4) العقل:
والمرتكز الرابع لهذه القاعدة هو العقل الذي تقوم عليه عملية إدراك الأحكام الشرعية من غير طريق النقل والإجماع، وفي ما نحن فيه فقدنا عدد كبير من الآيات، ويفوق ذلك من الروايات المتظافرة، واجماع متحقق، وسيرة متشرعة قامت على إقرار القاعدة، ومع ذلك فان العقل يحكم بان كل إفراط وتفريط وكل غلو وتساهل مرفوض وقبيح من قبله ومرفوض من قبل المنطق الإنساني السليم، ومن الفطرة والعقل النفور من الشدة والتطرف والميل نحو الاعتدال والموزونية.
ثم ان العرف هو الآخر يرفض التطرف في الفكر والممارسة، ويمدح التوسط في الخطاب والسلوك والذي يرتضيه العرف يؤيده الشرع.
والنتيجة المستخلصة من مجموع ما تقدم ان الحمل على التوسط من الأمور التي دعت إليها شريعة السماء وتعاليم الأنبياء(عليهم السلام)، ومن تأمل موارد الأحكام بالاستقراء عرف ان الحمل على التوسط هو الموافق لقصد الشارع وغرضه، وما من كلية شرعية ألا وهي قائمة على التوسط، واما التشديد المخالف للحكمة أو التخفيف المخالف لها أيضا فهو خروج عن روح الشرع ومذاق المتشرعة.
الوسطية في الدين والحياة
بما ان الإنسان مكون من سلالة من طين، ومن نفخة من روح، وان لكل منهما مطالب وحاجات فقد جاءت التشريعات والتعاليم المرتبطة به منظمة على أساس الآمرين مراعية (حق الروح) و(حق الجسد) فلا روحانية مقترة، ولا مادية مسرفة، بل تعادل وتوازن بينهما، لان إهمال أحدهما إهمال للإنسان المكرّم.
وبما ان الإنسان تتحكم فيه نزاعات فردية وتسلطية تتعارض مع النزاعات الاجتماعية التي تأخذ قسطاً كبيراً من حريته، لذا دعت الشريعة إلى تنمية الحس النوعي عند الفرد لجعله يهتم بالآخرين كما يهتم بنفسه. فقد جاء عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) انه قال: أعدل الناس من رضى للناس ما يرضى لنفسه وكره لهم ما يكره لنفسه(32).
فوسطية الإسلام لا تقتصر على جانب محدد وانما شاملة للجوانب الأخرى، ويمكن مشاهدة ذلك في اغلب مجالات الدين والحياة.
وسطية بين الارتماء في أحضان الدنيا وبين الرهبانية المنقطعة فقال في ذلك: (وابتغ في ما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا)(33).
وقال (ربنا آتتا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة)(34).
ووسطية بين الإسراف والتقتير حيث يقول: (والذين أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما)(35)، ويقول (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا)(36).
ان القصد في المعيشة من الأمور التي اولتها الشريعة كامل الاهتمام أفردت لها حيزا كبيراً من عنايتها ولعل الأحاديث التي وردت في هذا الباب تزيد على كل ما جاء في الأبواب الأخرى، ومن جملة الأسباب ان بقاء المجتمع واستمرارية الحياة الإنسانية قائمة على الاقتصاد في المعيشة وفي كل شيء، فعن أيوب بن حر قال: سمعت رجلا يقول لابي عبد الله(عليه السلام): بلغني إن الاقتصاد والتدبير في المعيشة نصف الكسب فقال أبوعبد الله: لا بل هوالكسب كله، ومن الدين التدبير في المعيشة(37)، وعن علي(عليه السلام) انه قال: القصد في المعيشة نصف المؤونة(38).
ووسطية بين التكالب على الأكل والشرب وبين ممارسة الرياضات المهلكة والانقطاع عن الغذاء حيث قال تعالى (كلوا واشربوا ولا تسرفوا)(39)، وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): عليكم بالقصد في المطاعم فانه، ابعد عن السرف، واصح للبدن، واعون على العبادة(40).
ووسطية في اللباس بين ما يوجب شهرة بالجودة وشهرة بالرذالة (فالمتقون فيها ) الدنيا ( هم أهل الفضائل، منطقهم الصواب، وملبسهم الاقتصاد) (41) أي انهم لا يلبسون ما يلحقهم بدرجة المترفين ولا ما يلحقهم بأهل الخسة والدناءة أو يصير سبباً لشهرتهم بالزهد كما هو دأب اغلب المتصوفة.
ووسطية في العلاقات الإنسانية، بين التصلب والليونة، لا تكن لينا فتعصر ولا يابساً فتكسر، بين الحب والبغض فإذا أحببت فلا تفرط وإذا أبغضت فلا تشطط، وفي البعد والقرب عن الناس والمجتمع، فعن علي عليه السلام انه قال: خير الناس النمط الأوسط يلحق بهم التالي ويرجع إليهم الغالي(42)، أوقول لقمان لابنه: يا بني لا تقترب فيكون ابعد لك.. ولا تبتعد فتهان(43).
ووسطية في السلوك بين التباطؤ والهرولة، أوبين خفض الصوت وارتفاعه، في هذا قال تعالى: (واقصد في مشيك واغضض من صوتك)(44).
ووسطية ايضاً عند القراءة في الصلاة بين الجهر والاخفات حيث يقول تعالى: (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلاً)(45). أولا تجهر بصلاتك كلها ولا تخافت بها كلها وابتغ بين ذلك سبيلا أي التبعيض على عين في السنة.
الأمة الوسط.. الأمة الشاهد
لا شك ولا ريب إن الأمة الإسلامية، هي خير أمة أخرجت للناس، وهي الأمة الوسطى التي عناها سبحانه وتعالى في قوله: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس)، فإذا كان في الأمة من ليس هذه صفته فكيف وصف جماعتهم بذلك؟، ومن لا يجوز شهادته في الدنيا على صاع تمر، كيف يطلب الله شهادته يوم القيامة ويقبلها منه بحضرة جميع الأمم الماضية؟ وإذا كان الوسط يعني العدل والخيار والفضل، وهي صفات لا تطلق على كل مسلم وبالخصوص العدالة التي لا تثبت الا بالحس والبينة وتحتاج إلى ترويض وتربية استثنائية، فكيف نسمح لانفسنا ان نطلق عليها (وسطية) و(شاهده) في نفس رسول الله(صلى الله عليه وآله) نقول:
المعني بالوسط هم الأئمة الأطهار(عليهم السلام) فقد روى بريد العجلي عن الباقر(عليه السلام) قال: نحن الأمة الوسط ونحن شهداء الله على خلقه وحجته في أرضه، وفي رواية أخرى: إلينا يرجع الغالي، وبنا يلحق المقصر، وروي الحسكاني في شواهد التنزيل بإسناده عن سليم بن قيس، عن علي(عليه السلام) ان الله تعالى إيانا عنى بقوله (لتكونوا شهداء على الناس) فرسول الله(صلى الله عليه وآله) شاهد علينا، ونـــحن شهداء علــى خـــلقــــه، وحجته في أرضه، ونحـــن الذين قال الله: (وكذلـــك جعلناكم أمة وسطا)(46) وفي الوقت الحاضر فان مثال الاعتدال والوسط والشاهد الحجة المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف وهو الحجة الباقية على الأرض.
ويمكن ان يكون المراد بالأمة الوسط من كان بتلك الصفة، لان كل عصر لايخلو من جماعة هذه صفتهم، ولو خليت قلبت. وعلى هذا إذا كان المراد بالوسط المعنى الأعم فهذا يشمل كل من التزم بالوسط قولا وعملا من أهل القبلة. وإذا كان المراد المعنى الأخص فهذا لا يخرج عن حدود الأئمة الأطهار (عليهم السلام).
ما لا يجوز التوسط فيه
كما قلنا الأصل في جميع الأشياء الاعتدال والوسطية الا ما خرج بالدليل، والمستثنيات من ذلك قليلة جداً وهذه أهمها:
المسائل الاعتقادية أو أي اصل من اصول الدين لا تقبل الوسط ولا التجزئة ولا التبعيض، فمن أراد ان يأخذها عليه أن يأخذها كلها أو يتركها كلها، أما أن يأخذ ببعض ويترك البعض الأخر أو يقف عند نقطة معينة لأنها توافق أهوائه والأديان الأخرى فهذا ما لا يسمح به إطلاقا، وفي ذلك قال تعالى: (ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون ان يتخذوا بين ذلك سبيلا، أولئك هم الكافرون حقا)(47).
الأمور التي فيها نص صريح كالقصاص والحدود وبعض أبواب الفقه الأخرى تستثنى من هذه القاعدة لان التوسط في امور محددة لا تقبل الزيادة أو النقصان هو بمثابة تلاعب وتعدي على تعاليم السماء، كما هو اجتهاد مقابل النص وهذا مرفوض جملة وتفصيلا.
في بعض المسائل الأخلاقية والسلوكية لا وجود لحالة الوسطية فيها، فليس عندنا وسط بين الكذب والصدق، الاحترام والاحتقار، القناعة والحرص، الانتقام والعفو، الحلم والغضب، الفضيلة والرذيلة، العلم والجهل، فهذه صفات متضادة ليس فيها وسطية وانما فيها دعوة لاتباع الفضائل الحميدة والابتعاد عن الرذائل.
نعم.. عندنا أمور مستحبة يحبذ فيها الأقدام والإسراع كالأمور الخيرية ولذا قال سبحانه: (فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله)(48). وهناك أمور يراد منها تحصيل اكبر قدر من الأجر والثواب كالذي يحمّل نفسه اشد التكاليف وأصعبها، أو ذاك الذي لا يأخذ إلا احمز الأمور واشدها لأنها تحوي الخير الكامل والثواب الشامل.
اضف تعليق