مواقف الإمام(ع) ثابتة لا تتغيّر سواء كان في الحكم أو خارجه. وكيف يتغيّر من أراد أن يخطّ لنا طريقاً سويّاً ومنهاجاً قويماً يبقى مدى الدهر حجة علينا معارضة كنّا أو حكّاما. الإمام الذي عصمته عناية السماء من الجهل والخطأ والعصيان وجعلته مدار الحق ومحور مسيرته...
ليس بإمكان أي باحث الإحاطة التامة بشخصية من شخصيات البيت النبوي أو الوقوف على الحقائق الواقعية التي سلكوها والمواقف العديدة التي اتخذوها واصرّوا عليها، ومن يجهد نفسه لمعرفة ناحية من حياتهم(ع) فلا يفرغ حتى يجد نفسه في بداية طرق ومسالك كثيرة لا يمكن الولوج إلى أحدها دون الالتفات إلى باقي المواقف لان سلوكهم مدرسة كاملة المبادئ متفقة المفاهيم والقيم.
فعموم البشر تتغلب فيهم خصلة أو خصلتان من الخصال التي يتطبعون بها، ومن النادر أن تشاهد شخصاً يحمل خصالاً زادت على أصابع اليد. أما عندما يصل الدور إلى المعصومين(ع) فإن العقول تتحيّر والألسن تخرس والأيدي تكل، وحتى الزمان يقف إجلالا وإكباراً لما وصلت إليه هذه الذوات الربانية الفذة، فهم مجمع الصفات الحميدة. والخصال المجيدة، والمثال الأسمى، والنموذج الارقى، لجميع المحاسن والفضائل، وليس عجباً أن تتجمّع فيهم الأضداد وتعزّ لهم الأنداد، وصدق صفي الدين الحلي عندما خاطب عليا(ع) قائلا:
جمعــــت في صفاتك الأضداد***** فلهـــذا عزت لك الأنداد
زاهد حــــاكم حليـــــم شجـاع***** فاتك ناســـك فقير جواد
خلق يخجل النسيم من اللطف***** وبأس يذوب منه الجماد
شيم ما جمعن في بشـر قـــط***** ولا حاز مثلهـــن العبــاد
وما قيل فيه بعض الحقيقة، أما حقيقة علي فلا يعرفها إلا الله ورسوله كما شهد بذلك رسول الله(ع) حينما قال: (يا علي ما عرفك إلا الله وأنا..)، ولكن الشيء المتميّز في علي(ع) والذي نحن اليوم بأمس الحاجة إليه أسلوب علي(ع) في المعارضة، وتقبّل علي(ع) للمعارضة بما تحمل هذه الكلمة من معاني ودلالات ومفاهيم.
فأحقية علي(ع) بالخلافة وقربه من رسول الله(ع) وامتلاكه الصفات الريادية و... لم تكن يوماً من الأيام مانعاً من التزامه بأخلاقيات المعارضة طوال السنوات الخمس والعشرين التي قضاها معارضاً ولنقل حاكماً في الظلّ - بحسب المعايير الظاهرية - يراقب الأوضاع عن كثب، فغضبه لم يخرجه يوماً عن الحق، كما لم يدخله رضاه في باطل، فنصح بصدق، وقاطع بحزم، ووقف أمام حملات التزييف ودعاة التحريف بشدّة، ليس حبّا في جاه أو طمعاً في منصب وإنما أراد أن يكون البديل الحضاري المتكامل الذي ستحن إليه أمته والأمم القادمة بعد أن تفيق من غفوتها وهكذا كان بعد اغتيال عثمان وهجوم الناس عليه للمبايعة.
وكونه(ع) معارضاً صلباً لا ينافي أن يكون في الوقت ذاته الملاذ الذي يأوي إليه الخلفاء لرد الشبهات ودحض الأباطيل وحلّ المعضلات، وتحديد الأولويات الحكومية مادامت تتفق مع مصالح الإسلام، وهذا إن دل على شيء إنما يدل على صدق معارضته واخلاصه لعمله، وما اكثر المواقف والمواضع التي نادى فيها عمر قائلاً (لو لا علي لهلك عمر) و(لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن) و(لا يفتينّ أحد في المجلس وعليّ حاضر)(1).
مواقف الإمام(ع) ثابتة لا تتغيّر سواء كان في الحكم أو خارجه. وكيف يتغيّر من أراد أن يخطّ لنا طريقاً سويّاً ومنهاجاً قويماً يبقى مدى الدهر حجة علينا معارضة كنّا أو حكّاما. الإمام الذي عصمته عناية السماء من الجهل والخطأ والعصيان وجعلته مدار الحق ومحور مسيرته كيف يتصرّف مع الطرف الآخر. فاسحاً المجال أمامه لإبداء رأيه ومناقشة أفكاره أو نقدها بصورة لاذعة. انه يريد أن يعطينا صورة واقعيّة عن الحاكم المسلم وحق الطرف الآخر في معارضته ومحاسبته، وإنّ الآراء والأفكار يجب أن تطرح في ساحة الحوار والمناقشة لبيان السقيم منها أو السليم لان الحاكم الحق.. لا المتسلط على الرقاب، سيحكم على العقول والقلوب فيربي ويعلم ويهذب ويمنح شعبه الأمل والحرية والرفاه.
والملفت للنظر أن بعضا ممن كانوا معارضين ووصلوا إلى الحكم بقيت عندهم حالة المعارضة وعدم تقبّل الآخر ولم يكتفوا بهذا الحد بل نكلوا بمخالفيهم ومعارضيهم اشدّ التنكيل، في حين نشاهد الإمام(ع) أعطى صورة نقيّة للمعارض الملتزم والحاكم المنفتح على معارضيه. فهو يرى أن المعارضة حق طبيعي لكل فرد يرضاها لنفسه ويطلبها لغيره، وعندما كان في السلطة عمل على تركيز هذا المنهاج وتثبيته وذهب إلى أبعد من ذلك عندما عفى وصفح عن الناكثين للبيعة والخارجين عن الطاعة.
فقد ذكرت كتب التاريخ أن (حرب الجمل) التي قادها طلحة والزبير وعائشة ضد الإمام أمير المؤمنين(ع) عندما انتهت ذهب الإمام(ع) عندها في جولة تفتيشية إلى بيت واسع قيل للإمام أن النساء قد اجتمعن فيه يبكين قتلاهن من الجيش المنهزم وهنّ يسبّن الإمام(ع) وأصحابه، فدخل الإمام(ع) وقال لأصحابه: لا تتعرّضوا لهنّ وإن سببن امرائكم وشتمن أعراضكم، ولمّا رأت النسوة الإمام(ع)، قلن: هذا قاتل الأحبة! فقال(ع): لو كنت قاتل الأحبة لقتلتُ من في هذه الغرف - وكان في الغرف جماعة من محاربيه -. وإذا بالنساء يسكتن فجأة وكأن على رؤوسهنّ الطير.
فتعجب الناس من ذلك! ماذا قال الإمام(ع)؟ وما الذي دعا هؤلاء النسوة إلى السكوت؟
وبعد ذلك انكشف الأمر لأصحاب علي(ع) حيث عرفوا أن رؤساء الجيش المنهزم كانوا قد اختفوا في تلك الغرف، وإن النساء قد اجتمعن هناك للتعمية والتضليل، ولمّا أشار الإمام للموضوع خفن وسكتن!(2).
اضف تعليق