كانت البلاد الاسلامية، منذ عهد رسول الله، صلى الله عليه وآله، وحتى قرن من الزمن، تحكمها القوانين الاسلامية، صحيح أن معظم الخلفاء والملوك؛ شخصاً وحاشية، فاسقين ولا يلتزمون بالاحكام الاسلامية، فيشربون الخمر ويلعبون القمار، ويقتلون الابرياء، ويستولون على أكبر قدر من أموال الرعية، بل كان قسماً منهم لا يؤدي الصلاة ولا الصيام. ولكن؛ قوانين البلاد كانت اسلامية، بمعنى أن المحاكم آنذاك كانت تحكم وفق القوانين الاسلامية، مثلاً: "البينة على من ادعى واليمين على من انكر"، او اذا زوج إنسان ابنته وعمرها عشر سنوات، فان الدولة – آنذاك- او المحكمة او القاضي، لم يقولوا لذلك الأب: "انك خالفت القانون، ولابد أن تسجن"، كذلك الحال بالنسبة لمن يعمّر قطعة من الارض المباحة بالبناء، لم يكن هنالك حاكم او قاضي يقول له: "لا يجوز لك البناء على هذه الارض، إلا برسوم خاصة واجراءات البلدية، وغير ذلك، إنما كانوا يعملون بقانون الاسلام الذي يعد البنت في سن العاشرة من العمر، بالغة ومؤهلة للزواج، كما إن "الارض لمن عمّرها". وهكذا سائر القوانين الاسلامية.
وعندما جاء الغربيون والشرقيون الى البلاد الاسلامية، ونقصد بالغربيين؛ اميركا وبريطانيا وفرنسا وايطاليا ومن لفّ لفهم، والشرقيين؛ الشيوعيين، قاموا بتغيير قوانين الاسلام، بمعنى أن الحاكم في البلاد الاسلامية بقي على حالة الانحراف وعدم الالتزام بالاحكام الاسلامية، وعلاوة على ذلك، اصبحت البلاد الاسلامية تحكم بقوانين الغرب او الشرق، وبدّلوا القوانين؛ من اسلامية او كافرة. بمعنى أنك اذا زوجت ابنتك وعمرها عشر سنوات، فان القانون يعاقبك، لأنك خالفت القانون، أو انك كرجل دين، اذا أجريت عقد الزواج، فان المحكمة توجه لك تهمة مخالفة القانون لأنك لم تكن مجازاً بإجراء عقد الزواج هذا، وعليه تدان وتسجن، أو اذا بنيت داراً او رممت دكاناً، فان البلدية تقول لك: صنعت هذا الشيء بغير إذن من البلدية، فمن حقها هدم دارك او تسجنك. وهذا ما يسود في أغلب البلاد الاسلامية، واصبحت البلاد الاسلامية خاضعة؛ إما لقوانين غربية او قوانين شرقية او مزيج منهما، فيما يتعلق بمختلف شؤون الحياة، مثل قوانين العقوبات والجرائم وغيرها.
في العهد الملكي – القاجاري بإيران، لم يكن الحكام صالحين، بيد أن القوانين الاسلامية كانت بمعظمها حاكمة، لأن العلماء كانوا يحكمون وايضاً القضاة، وإن كان ثمة تغيير في هذه القوانين، فانه كان تغييراً بسيطاً جداً.
وعندما جاء البريطانيون بـ "رضا خان" الى ايران، والذي اصبح فيما بعد "رضا شاه بهلوي" وطوى صفحة العهد القاجاري، قام هذا الملك الجديد (العميل) بتطبيق القانون الكافر، وكذلك فعل سائر العملاء في البلاد الاسلامية الاخرى.
لماذا يخشون القانون الاسلامي؟
يتفق العلماء على أن القانون إنما نشأ تلبية لاحتياجات الإنسان في الحياة، سواء ذلك القانون الذي قرره الله – سبحانه- من خلال الكتب السماوية والرسل الى الأمم والشعوب، أو ما قرره الزاعمون للإصلاح من البشر، فالهدف واحد في تحقيق الخير والسعادة للانسان.
وبما أن القانون يرسم أطر محددة من شأنها تنظيم حياة الناس، من خلال تحديد سلوكهم وتحركاتهم بما يفيد الحياة الشخصية للفرد من جهة، وحياة المجتمع من جهة اخرى، فانه يمثل مفتاح السيطرة المادية والمعنوية على الناس، لذا كان حرص المستعمرين للبلاد الاسلامية على تغيير القوانين قبل أي شيء آخر، لأن احتكام الناس الى قوانينهم الاسلامية في مختلف جوانب الحياة، لن يبق مبرراً لوجود المستعمر الذي يظن أنه الأفضل ويجب ان يحكم بلاد متخلفة.
الى ذلك أشار سماحة المرجع الديني الراحل السيد محمد الشيرازي – طاب ثراه- في حديث مسجل، كاشفاً عن هذه الحقيقة التاريخية والتي ما نزال نشهد آثارها على واقع البلاد الاسلامية، وطالما بين سماحته المساوئ الكبيرة في القوانين المستوردة على حياة الشعوب الاسلامية، في عديد مؤلفاته طيلة العقود الماضية، مع دعوته في الوقت ذاته الى محاربة هذه القوانين والعودة الى القوانين الاسلامية بما لها من تطابق كامل للفطرة الانسانية وفرص نجاح في التطبيق ونتائج باهرة في الإصلاح والتقدم.
لكن؛ يبقى السؤال عن سبب خشية بعض الانظمة السياسية وبعض التيارات الثقافية من عودة القوانين الاسلامية، بل والوقوف بوجهها بقوة، وربما تكون نبوءة الامام الشيرازي الراحل دقيقة، بأن اذا رحل المستعمر من البلاد الاسلامية فانه أمّن على قوانينه الخاصة، حكّاماً أقسموا على تطبيق هذه القوانين مهما كانت النتائج!
سماحة الامام الراحل في كتابه "الفقه القانون" يجيب على جانب من هذا السؤال الكبير، بأن الاسلام ليس فقط يضع القوانين التي تفيد الانسان في الجانبين المادي والمعنوي، مثل السكن والعمل والزواج والصحة وغيرها، وما يتعلق بالمسائل المعنوية مثل؛ العلم والفضيلة والتقوى والامن والحرية والعدالة، إنما "يزيد على القوانين ــ كما هي حالة الأديان السماوية الأخرى ــ في أنه يبشر بدار آخرة، ولذا وضع لها سلسلة طويلة من القوانين، وهذه القوانين أمنت سبل الحياة السعيدة في الدنيا أيضاً، إذ الوازع الداخلي لـه أهمية قصوى بالنسبة إلى تعديل الحياة وإسعاد البشر بما لا يتمكن القانون من توفيره إطلاقاً".
بمعنى أن الاسلام قادر ليس فقط توفير ما يحتاجه الانسان حسب مداركه ومشاعره في نطاق زماني ومكاني معين، بل يؤمن له النتائج الطيبة لقادم الايام بما ليس بوسعه التكهّن بما سيجري وتكون عليه الامور اذا ما قام بهذا العمل او ذاك.
ومن أبرز الامثلة على ذلك؛ ما يجري الحديث عنه بصخب كبير بين فترة واخرى فيما يتعلق بالعلاقة بين الرجل والمرأة، وفي جوانب شتّى بالحياة، مثل الارث والزواج والاختلاط ونمط العلاقة المفترضة، فالعلماء يؤكدون في بحوثهم أن القوانين الاسلامية في هذا الملف تحديداً تضمن للرجل والمرأة معاً، أفضل اشكال الحياة الطيبة والآمنة، بحيث "لا تَظلِمون ولا تُظلمون"، ويحصل الاثنين على حقوقهما بشكل عادل ومرضٍ، بينما نسمع هنا وهناك من يتحدث وبصوت عالٍ عن مقولة "الاحكام المسبقة" وأنه: "من يقول أن هذه الحالة ستؤدي الى تلك الحالة...."؟! علماً أن اصحاب هذه المقولة ودعوات التحلل، يشهدون سيلاً من الحالات السلبية التي تنتهك حق المرأة والفتاة قبل الرجل والشاب، بسبب عدم الأخذ بالقوانين الاسلامية.
ومن نافلة القول في هذا السياق، ما نسمعه هذه الايام من دعوات صريحة في إحدى الجامعات العراقية، ومن قبل اساتذة محاضرين، بعدم تجمع الطالبات في جانب بعيداً عن الطلاب، والاشارة لهم بالجلوس جنباً الى جنب، وفي نفس هذه الجامعة حصل أن تعرضت فتاة الى طعن بالسكين من طالب، يفترض ان يكون زميلاً لها، لأسباب غامضة.
بين الزواج المبكر وشرعنة الإجهاض
ربما كان التزامن صدفة عجيبة، بين الاحتجاجات في تركيا على مشروع قدمته الحكومة الى البرلمان يقضي بعدم مقاضاة الرجل المتزوج من فتاة صغيرة السن (قاصر)، مع خبر صاعق آخر، ولكن دون أي ردود فعل في العالم، جاء من الفاتيكان، ومن شخص البابا فرنسيس، الذي خوّل الكهنة بتقديم "صكوك غفران" لمن ارتكب جريمة الاجهاض، بذريعة "التوبة والاقرار بالخطأ وطلب المصالحة ومغفرة الله...". وجاء في وثيقة نشرتها الفاتيكان: "لا يوجد أي حكم او شريعة يمنعان الله من معانقة ابنه العائد اليه مقراً بأنه أخطأ، لكنه عازم على البدء من جديد، إن التوقف عند الشريعة يعني جعل الايمان والرحمة الالهية بلا جدوى"!.
ومن أبرز الحجج التي ساقها المعترضون على القانون الحكومي في تركيا، بأن القانون يفيد من يرتكب جريمة الاغتصاب بحق فتاة صغيرة السن، ثم يتوسّل بالمال لكسب موافقة الأهل على الزواج ومن ثم الخروج من الادانة القانونية ومن السجن.
وفي تركيا، كما في سائر البلاد الاسلامية، لا تسجل المحكمة الزواج للفتاة إلا في سن الثامنة عشر من العمر، بل ان في تركيا قانوناً يعد الرجل المتزوج من فتاة دون الخامسة عشر من العمر بمنزلة المغتصب لها ويعاقب عليه بالسجن، وحسب الاحصائيات الحكومية، يوجد في السجون التركية حالياً حوالي ثلاثة آلاف رجل بتهمة الزواج من فتيات صغيرات في السن، وهم على الاغلب من سكان المناطق الريفية التي يكثر فيها الزواج المبكر بخلاف ما معروف عنه في المدن.
فالمسيحية، وعلى لسان كبير الكنيسة الكاثوليكية، وبكل سهولة، يغفر لمن يرتكب جريمة قتل شنيعة بحق طفل مخلوق للتو من قبل رب العزّة والعظمة، بينما تُدين جهات معينة في تركيا كما في بلاد اسلامية أخرى، الزواج المبكر للفتيات، ومن اجل إثارة المشاعر، يقدم البعض على الخلط العجيب عن الزواج المبكر وبين الاغتصاب، علماً أن هذه الجهات تقف حائرة وصامتة أمام انتشار جرائم الاغتصاب بين الكبار، التي تم تخفيفها قسراً بمسمّى "التحرّش الجنسي"، بعد ان تحول الى أمر واقع في بعض المجتمعات الاسلامية، كما تحول الاجهاض الى أمر واقع فرض نفسه حتى على الديانة المسيحية التي تحرّم – من حيث المبدأ- الاجهاض.
ورب سائل عن مساوئ بعض التجارب للزواج المبكر، وهذا يعود الى الاساليب والآليات والقصور في الجانب الاجتماعي والتربوي، ولا دخل له بالقانون الاسلامي بتاتاً، فالقانون شيء والقائمون على تطبيقه شيء آخر.
اضف تعليق